22- وهم يصبرون علي الأذى يطلبون رضا الله بتحمله في سبيل إعلاء الحق ، ويؤدون الصلاة علي وجهها تطهيراً لأرواحهم وتذكراً لربهم ، وينفقون من المال الذي أعطاهم الله في السر والعلن من غير رياء ، ويدفعون السيئات بالحسنات يقومون بها ، وهم بهذه الصفات لهم العاقبة الحسنة ، بالإقامة يوم القيامة بأحسن دار وهي الجنة .
قوله تعالى : { والذين صبروا } ، على طاعة الله ، وقال ابن عباس : على أمر الله عز وجل . وقال عطاء : على المصائب والنوائب ، وقيل : عن الشهوات . وقيل : عن المعاصى . { ابتغاء وجه ربهم } ، طلب تعظيمه أن يخالفوه . { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً } ، يعني يؤدون الزكاة . { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل ، وهو معنى قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود-114 ] . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، حدثنا أبو الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض " . وقال ابن كيسان : معنى الآية : يدفعون الذنب بالتوبة . وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ، ولكن يدفعون الشر بالخير . وقال القتبي : معناه : إذا سفه عليهم حلموا ، فالسفه : السيئة ، والحلم : الحسنة . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفا ، نظيره قوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان-63 ] . وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا . قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة . { أولئك لهم عقبى الدار } " ، يعني الجنة ، أي : عاقبتهم دار الثواب .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } على المأمورات بالامتثال ، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها ، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها .
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه ، طلبا لمرضاة ربه ، ورجاء للقرب منه ، والحظوة بثوابه ، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر ، فهذا يصدر من البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فليس هو الممدوح على الحقيقة .
{ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة ، سرا وعلانية ، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : من أساء إليهم بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه .
فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء ؟ !
{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } فسرها بقوله :
ثم أضاف - سبحانه - إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } أى : أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، وصبروا على المصائب وآلامها ، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم ، لا رضا أحد سواء .
أى : أن صبرهم في كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك ، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله - تعالى - وطلب ثوابه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولئلا يشمت به الاعداء ، كقوله :
وتجلدى للشامتين أريهم *** أنى لريب الدهر لا أتزعزع
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مرد فيه للفائت .
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله - تعالى - وإلا لم يستحق به ثوابا ؛ وكان فعلا كلا فعل .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة } أى : أدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار ، بخشوع وإخلاص . { وَأَنْفَقُواْ } بسخاء وطيب نفس { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أى : مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم . { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أى : ينفقون مما رزقناهم سرا . حيث يحسن السر ، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره ، وينفقون { علانية } حيث تحسن العلانية ، كأن ينفقوا بسخاء في مجال التنافس في الخير ، ليقتدى بهم غيرهم { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } والدرء : الدفع والطرد . يقال : درأه درءاً ، إذا دفعه .
أى : أن من صفات أولى الألباب - أيضا - أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السئ ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " أو أنهم يدعفون سيئة من أساء إليهم بالإِحسان إليه ، أو بالعفو عنه ، متى كان هذا الإِحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : " وفى الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة ، عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا .
إن المستعمر الغاشم لا يجدى معه إلى الدفع الصارم ، والمفسدون في الأرض لا يجدى معهم إلا الأخذ الحاسم ، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب . "
وجملة { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } بيان الجزاء الحسن ، الذي أعده الله - تعالى - لهؤلاء الأخيار .
والعقبى : مصدر كالعاقبة ، وهى الشئ الذي يقع عقب شئ آخر .
والمراد بالدار : الدنيا . وعقباها الجنة . وقيل المراد بالدار : الدار الآخرة . وعقباها الجنة للطائعين ، والنار للعاصين .
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، لهم العاقبة الحسنة وهى الجنة . والجملة الكريمة خبر عن { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله . . . } وما عطف عليها .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } أي : عن المحارم والمآثم ، ففطموا{[15565]} نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها{[15566]} وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب ، من فقراء ومحاويج ومساكين ، { سِرًّا وَعَلانِيَةً } أي : في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، في آناء الليل وأطراف النهار ، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34 ، 35 ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، ثم فسر ذلك بقوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة ، أي : جنات إقامة يخلدون{[15567]} فيها .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له : " عدن " ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة{[15568]} لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .
وقال الضحاك في قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها . رواهما ابن جرير .
وقوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه{[15569]} ترفع{[15570]} درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانًا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] . {[15571]}-{[15572]} وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند{[15573]} دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا{[15574]} معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما{[15575]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون{[15576]} الذين تُسدُّ بهم الثغور ،
وتُتَّقَى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا{[15577]} يشركون بي شيئًا ، وتُسَد{[15578]} بهم الثغور ، وتتقى{[15579]} بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء " . قال : " فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب ، { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15580]} ورواه أبو القاسم الطبراني ، عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين ، الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار ، ونُقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا{[15581]} في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15582]} وقال عبد الله بن المبارك ، عن بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، سمعت رجلا من مشيخة الجند ، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول [ أقصى الخدم ]{[15583]} للذي يليه : " مَلك يستأذن " ، ويقول الذي يليه للذي يليه : " ملك يستأذن " ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا . فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف . رواه ابن جرير . {[15584]} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطأة بن المنذر ، عن أبي الحجاج{[15585]}
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة ، فذكر نحوه .
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول ، فيقول لهم : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } وكذا أبو بكر ، وعمر وعثمان . {[15586]}
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ، بأن لهم { عُقْبَى الدَّارِ } وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عُقْبَىَ الدّارِ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بعهد الله وترك نقض الميثاق وصلة الرحم ، ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ ويعني بقوله : ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ طلب تعظيم الله ، وتنزيها له أن يخالف في أمره أو يأتي أمرا كره إتيانه فيعصيَه به . وأقامُوا الصّلاةَ يقول : وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها . وأنْفقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً يقول : وأدّوا من أموالهم زكاتها المفروضة ، وأنفقوا منها في السبل التي أمرهم الله بالنفقة فيها ، سرّا في خفاء وعلانية في الظاهر .
كما : حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأقامُوا الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس ، وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً يقول الزكاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد الصبر : الإقامة ، قال : وقال الصبر في هاتين ، فصبر لله على ما أحبّ وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، وصبر عما يكره وإن نازعت إليه الأهواء ، فمن كان هكذا فهو من الصابرين . وقرأ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعْمَ عُقْبَى الدّارِ .
وقوله : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ يقول : ويدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس ، بالإحسان إليهم . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَة السّيّئَةَ قال : يدفعون الشرّ بالخير ، لا يكافئون الشرّ بالشرّ ولكن يدفعونه بالخير .
وقوله : أُولَئِكَ لَهُم عُقْبَى الدّارِ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا صفتهم هم الذين لهم عُقبى الدار ، يقول : هم الذين أعقبهم الله دار الجنان من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار ، فأعقبهم الله من تلك هذه . وقد قيل : معنى ذلك : أولئك الذين لهم عَقِيب طاعتهم ربهم في الدنيا دار الجنان . )
{ والذين صبروا } على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى . { ابتغاء وجه ربهم } طلبا لرضاه لا لجزاء وسمعة ونحوهما . { وأقاموا الصلاة } المفروضة . { وأنفقوا مما رزقناهم } بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه . { سرّاً } لمن لم يعرف بالمال . { وعلانيةً } لمن عرف به . { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ويدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان ، أو يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها . { أولئك لهم عقبى الدار } عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة ، والجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات .
«الصبر لوجه الله » يدخل في الرزايا والأسقام والعبادات وعن الشهوات ونحو ذلك .
و { ابتغاء } نصب على المصدر أو على المفعول لأجله ، و «الوجه » في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، وهذا كما تقول : خرج الجيش لوجه كذا ، وهذا أظهر ما فيه مع احتمال غيره و «إقامة الصلاة » هي الإتيان بها على كمالها ، و { الصلاة } هنا هي المفروضة وقوله : { وأنفقوا } يريد به مواساة المحتاج ، و «السر » هو فيما أنفق تطوعاً ، و «العلانية » فيما أنفق من الزكاة المفروضة ، لأن التطوع كله الأفضل فيه التكتم .
وقوله : { ويدرؤون بالحسنة السيئة } أي ويدفعون من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن ، وقيل : يدفعون بقوله : لا إله إلا الله ، شركهم وقيل : يدفعون بالسلام غوائل الناس .
قال القاضي أبو محمد : وبالجملة فإنهم لا يكافئون الشر بالشر ، وهذا بخلاف خلق الجاهلية ، وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين صبروا} على ما أمر الله... {ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم} من الأموال، {سرا وعلانية ويدرءون}، يعني ويدفعون، {بالحسنة السيئة} إذا أذاهم كفار مكة، فيردون عليهم معروفا، {أولئك لهم عقبى الدار} يعني: عاقبة الدار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَالّذِينَ صَبَرُوا" على الوفاء بعهد الله وترك نقض الميثاق وصلة الرحم، "ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ "ويعني بقوله: "ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ": طلب تعظيم الله، وتنزيها له أن يخالف في أمره أو يأتي أمرا كره إتيانه فيعصيَه به. "وأقامُوا الصّلاةَ" يقول: وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. "وأنْفقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً" يقول: وأدّوا من أموالهم زكاتها المفروضة، وأنفقوا منها في السبل التي أمرهم الله بالنفقة فيها، سرّا في خفاء وعلانية في الظاهر...
وقوله: "ويدرؤون بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ" يقول: ويدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس، بالإحسان إليهم... قال ابن زيد، في قوله: "وَيَدْرَؤونَ بالحَسَنَة السّيّئَةَ" قال: يدفعون الشرّ بالخير، لا يكافئون الشرّ بالشرّ ولكن يدفعونه بالخير.
وقوله: "أُولَئِكَ لَهُم عُقْبَى الدّارِ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم هم الذين لهم عُقبى الدار، يقول: هم الذين أعقبهم الله دار الجنان من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار، فأعقبهم الله من تلك هذه. وقد قيل: معنى ذلك: أولئك الذين لهم عَقِيب طاعتهم ربهم في الدنيا دار الجنان.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ويدرؤون بالحسنة السيئة} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يدفعون المنكر بالمعروف، قاله سعيد بن جبير. الثاني: يدفعون الشر بالخير، قاله ابن زيد. الثالث: يدفعون الفحش بالسلام، قاله الضحاك. الرابع: يدفعون الظلم بالعفو، قاله جويبر. الخامس: يدفعون سفه الجاهل بالحلم، حكاه ابن عيسى. السادس: يدفعون الذنب بالتوبة، حكاه ابن شجرة. السابع: يدفعون المعصية بالطاعة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذه الآية أيضا من تمام وصف الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ميثاقه ويصلون ما أمر الله بوصله، ويصبرون على ترك معاصي الله، والقيام بما أوجبه عليهم، والصبر على بلاء الله وشدائده من الأمراض والفقر وغير ذلك. والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه مما لا يجوز من الفعل وهو تجرع مرارة تمنع النفس مما تحب من الأمر.
ومعنى قوله "ابتغاء وجه ربهم "أي يفعلون ذلك طلب عظمة ربهم.
والعرب تقول ذلك في تعظيم الشيء يقولون: هذا وجه الرأي، وهذا نفس الرأي المعظم، فكذلك سبيل وجه ربهم أي نفسه المعظم بما لا شيء أعظم منه، ولا شيء يساويه في العظم. والمعنى: ابتغاء ثواب ربهم.
وقوله: "وأقاموا الصلاة" يعني أقاموها بحدودها. وقيل: معناه: داوموا على فعلها. و" انفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية "أي ظاهرا وباطنا، ما يجب عليهم من الزكاة، وما ندبوا إليه من الصدقات. والسر: إخفاء المعنى في النفس...
ثم قال تعالى مخبرا أن هؤلاء الذين وصفهم بهذه الصفات" لهم عقبى الدار "أي عاقبة الدار، وهي الجنة التي وعد الله الصابرين بها.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
559- {وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} ندب إلى العلانية أيضا لما فيها من فائدة الترغيب. [الإحياء: 2/256]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{صَبَرُواْ} مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف {ابتغاء وَجْهِ} الله، لا ليقال: ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء... ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت... وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله، وإلا لم يستحق به ثواباً، وكان فعلا كلا فعل. {مّمّا رزقناهم} من الحلال... {سِرّا وَعَلاَنِيَةً} يتناول النوافل، لأنها في السر أفضل والفرائض، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الوجه» في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة... وقوله: {وأنفقوا} يريد به مواساة المحتاج...
... قوله: {وأقاموا الصلاة} واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره: {والذين صبروا} أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه،... {ابتغاء} أي طلب {وجه ربهم} أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال: ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة. ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال: {وأقاموا الصلاة} لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال -: {وأنفقوا} وخفف عنهم بالبعض فقال: {مما رزقناهم} -لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من القوى، وقال: {سراً وعلانية} إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع،... وقال: {ويدرؤون} أي يدفعون بقوة وفطنة {بالحسنة} أي من القول أو الفعل {السيئة} إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين. ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة {لهم عقبى الدار}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأقاموا الصلاة. وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله، ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه. (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية). وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق. ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة. والتي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغل؛ وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله. والإنفاق سرا وعلانية. السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان. والعلانية حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ويطاع القانون. ولكل موضعه في الحياة. ويدرؤون بالحسنة السيئة.. والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله. ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة. فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير؛ وتطفئ جذوة الشر، وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية. فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة.. ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي. ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين. فأما في دين الله فلا.. إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم. والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم. والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جاءت صلة {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} وما عطف عليها وهو {وأقاموا الصلاة وأنفقوا} بصيغة الماضي لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويهاً بها لأنها أصول لفضائل الأعمال. فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنها لحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك قال تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر: 2 3]. وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [سورة البقرة: 45]. وأما الإنفاق فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانياً للصلاة. ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء ما يُحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوُصف لهم دواء ذلك بأن يدعوا السيّئات بالحسنات...
والمراد الصبر على مشاق أفعال الخير ونصر الدين. وابتغاء وجه ربهم}... والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتّقاء شماتة الأعداء...
والدرء: الدفع والطرد. وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفُوع وقبلَ حصوله بأن يُعِدّ ما يمنع حصوله... {أولئك لهم عقبى الدار}... ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف... ولهم {عقبى الدار}... أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بأضداد صفاتهم... والمعنى: لهم الدار العاقبة، أي الحسنة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... {ويدرؤون بالحسنة السيئة}، إن الإكثار من الحسنات يدفع السيئات؛ ذلك أن الحسنات طهارة للنفس، والطهارة تزيل أخباث النفس...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ورابع صفة وصف الله بها أولي الألباب أن تكون لهم قدرة على ضبط النفس والصبر الجميل، فهم بالمرصاد دائما لأنفسهم وشهواتهم، لا يطلقون لها العنان، ويلتزمون إزاءها حدود الاعتدال والمشروعية دون كبت ولا طغيان، وهم في حالة الرخاء صابرون، بحيث لا يطغون ولا يتعدون الحدود، وفي حالة الشدة صابرون، بحيث لا يسخطون على الموجود طمعا في المفقود. وإلى هذه الصفة يشير قوله تعالى هنا: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} فهم صابرون عن رضا لا عن سخط، وعن اختيار لا عن مجرد اضطرار، وهم قاصدون بصبرهم وجه الله ورضاه، أولا وأخيرا...
وسابع صفة وصف الله بها أولي الألباب، أن يكونوا على درجة كافية من الانتباه الشديد، والمحافظة على رصيدهم الخاص من الحسنات، حتى يظل رصيدا لا عجز فيه ولا تطغى عليه السيئات، بحيث يكونون ذوي وعي عميق وانتباه تام، وولوع بمحاسبة أنفسهم ونقدها الذاتي على الدوام، وهكذا كلما عملوا سوءا بجهالة أو تحت تأثير نزوة من النزوات، اهتموا بأن يعملوا في أعقابه مباشرة ما يمحو أثره، ويزيل مفعوله، من صالح الحسنات. وإذا أساء إليهم مسيء لم يقابلوا إساءته بالمثل، بل قابلوا إساءته بالإحسان، مساهمة منهم في وضع حد لروح الشر والعدوان، وإشاعة لروح التسامح والغفران، وإلى هذه الصفة يشير قوله تعالى هنا: {ويدرؤون بالحسنة السيئة}... فهذه هي الصفات الرئيسية التي يعتبر من اتصف بها في نظر الإسلام – طبقا لمعيار الذكر الحكيم- من "أولي الألباب "أي من أصحاب العقول الناضجة والأفكار السليمة، وبقدر ما ينقص منها عند الشخص يكون ناقص العقل، فاقد اللب، غير معدود في عداد العقلاء الراشدين، فمن أراد أن يعرف نفسه أهو في عداد العقلاء الراشدين، أم في عداد السفهاء والحمقى والمجانين، فليعيرها بمعيار القرآن، فإنه خير معيار يعير به النقصان والرجحان في ميزان الإيمان...
الصبر يحتاج صابراً هو الإنسان المؤمن، ويحتاج مصبوراً عليه؛ والمصبور عليه في الأحداث قد يكون في ذات النفس؛ كأن يصبر الإنسان على مشقة التكليف الذي يقول "افعل "و "لا تفعل". فالتكليف يأمرك بترك ما تحب، وأن تنفذ بعض ما يصعب عليك، وأن تمتثل بالابتعاد عما ينهاك عنه، وكل هذا يقتضي مجاهدة من النفس، والصبر الذاتي على مشاق التكليف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}، بما يمثله الصبر من التزامٍ عمليٍّ بما يحبه الله ويرضاه، على الرغم من النتائج السلبية لذاك الالتزام، وما يجري عليهم من الآلام ومن خسائر مادية ومعنوية نتيجة الحرمان على أكثر من صعيد. وهؤلاء الصابرون لا ينطلقون في موقفهم الصامد من حالةٍ ذاتية، بل من التقرب إلى الله في معاناتهم وتحمل الآلام والتضحيات. وبذلك يتعمّق الصبر في نفوسهم كحالةٍ نفسيةٍ جهاديةٍ عميقةٍ، في عمق الارتباط بالله والإيمان به. {وَأَقَامُواْ الصّلاة} التي تفتح قلوبهم لله، وتعرج بأرواحهم إليه، وتدفعهم للتفكير الدائم بالإخلاص له في موقع الممارسة العملية للعبودية المطلقة له، أمام الألوهية القادرة الرحيمة، فيعيشون الحرية أمام العالم كله، لشعورهم العميق بالعبودية لله، وتتأكد كل القيم الكبيرة في الحياة، من خلال ما تخلقه روحية الصلاة في ركوعها وسجودها وكلماتها من آفاقٍ روحية ومناهج عملية، تلتقي بالجانب المشرق من الفكر والحياة. {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} بما يمثله الإنفاق من معنى العطاء الذي يمتد من روح الإنسان المتحركة بالخير، إلى حياة الآخرين، ليشبع جائعاً وليروي ظامئاً وليكسو عرياناً وليغيث ملهوفاً، وليقضي حاجةً وليفرّج كربةً وليقوّي ضعيفاً أو يعلِّم جاهلاً أو يهدي ضالاً، إلى غير ذلك من موارد الإنفاق في سبيل الله الذي يتحرك في حالة السر عندما تدعو الحاجة إلى الإسرار بالإنفاق لحفظ كرامة الإنسان المحتاج، أو يتحرك في حالة الإعلان عندما تدعو الحاجة إلى الإعلان، لتشجيع الآخرين على ذلك أو لتسجيل موقفٍ في هذا المجال لمصلحةٍ إنسانيةٍ أو إسلامية. {وَيَدْرؤونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} بانفتاحهم على الجانب الإنساني الخيّر من شخصية الإنسان الذي يعيش رحابة الصدر، وسعة الأفق وإنسانية النظرة وروحية المعاملة، فلا يتعقّد من الإساءة إليه ليتحوّل ذلك إلى حالةٍ مرضيةٍ في نفسه، بل يحاول أن يمتص السلبيات ليحوّلها إلى إيجابياتٍ، ويواجه السيئات بروحيةٍ تطمح إلى تبديلها بالحسنات، فيحسن لمن أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويصل من قطعه، حتى يجعل من ذلك حافزاً يدفع الطرف الآخر للتراجع عن خطئه، والرجوع إلى ربه، انطلاقاً من القناعة بأن الفعل الأخلاقي متعلق بالإحساس الداخلي بالمبدأ، لا من موقف رد الفعل، باعتبار القيمة الأخلاقية عمليةً تبادلية يقدّم فيها الإنسان إلى الآخرين مقابل ما قدموه إليه، أو ينتظرهم ليتسلموا زمام المبادرة في عمل الخير معه. وعلى ضوء ذلك، نستطيع أن نفهم كيف يعدّ الإسلام الإنسان المسلم لقيادة الحياة من حوله، ليتغلب على كل سلبياتها الانفعالية، بواسطة عقله الذي يخطط للمستقبل الواسع، إذا فكر الناس من حوله بالزوايا الضيّقة للحاضر، وبواسطة روحه التي تنفتح على مشاكل الآخرين، بالروحية التي تعمل على حلّها، لا على تعقيدها، فإن ذلك هو السبيل للسيطرة على الساحة، بسياسة الاحتواء الفكري والأخلاقي الذي لا يترك جانباً فارغاً من الخير، أو من الحركة الجدّية في اتجاه التجربة الواقعية لأعمال الخير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الصفة السّادسة من صفاتهم هي (وأقاموا الصلاة). رغم أنّ إقامة الصلاة هي مصداق للوفاء بعهد الله وكذلك المصداق البارز لحفظ ما أمر الله به أن يوصل، ومصداق للصبر والاستقامة، ولكن هناك بعض مصاديق تلك المفاهيم الكلّية أكثر أهميّة في مصير الإنسان، فهذه الجملة والجمل التي ما بعدها تشير إلى ذلك. أي شيء أهمّ من هذا؟! إنّ الإنسان يجدّد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى صباحاً ومساءاً، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه، ويُطهّر نفسه من الذنوب، ويرتبط بالحقّ المطلق، نعم. فإنّ الصلاة لها كلّ هذه الآثار والبركات...