المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

16- والرجل والمرأة اللذان يزنيان وهما غير متزوجين فلهما عقوبة محدودة - إذا ثبت الزنا بشهادة شهود أربعة عدول - فإن تابا بعد العقوبة فلا تذكِّروهما بما ارتكبا ولا تعيِّروهما به ، إن الله يقبل برحمته توبة التائبين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم } . يعني : الرجل والمرأة ، والهاء راجعة إلى الفاحشة ، قرأ ابن كثير " اللذان " ، و " اللذين " ، و " هاتان " ، و " هذان " مشددة النون للتأكيد ، ووافقه أهل البصرة في ( فذانك ) ، والآخرون " بالتخفيف ، قال أبو عبيدة : خص أبو عمرو فذانك بالتشديد لقلة الحروف في الاسم .

قوله تعالى : { فآذوهما } . قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان : أما خفت الله ؟ أما استحييت من الله حيث زنيت ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبوهما ، واشتموهما ، قال ابن عباس : هو باللسان واليد ، يؤذى بالتعيير وضرب النعال . فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد ، وقيل : الآية الأولى في الثيب ، وهذه في البكر .

قوله تعالى : { فإن تابا } . من الفاحشة .

قوله تعالى :{ وأصلحا } . العمل فيما بعد .

قوله تعالى : { فأعرضوا عنهما } . فلا تؤذوهما .

قوله تعالى : { إن الله كان تواباً رحيماً } . وهذا كله كان قبل نزول الحدود ، فنسخت بالجد والرجم ، والجلد في القرآن . قال الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور :2 ] . والرجم في السنة .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وكان أفقههما :أجل يا رسول الله ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم ، قال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً ، أي أجيرا ، على هذا ، فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وأما على ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا –أي أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر-فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت فرجمهاأتي امرأة أ .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه .

والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف . وجملة حد الزنا أن الزاني إذا كان محصناً ، وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإصابة بالنكاح الصحيح ، فحده الرجم ، مسلماً كان أو ذمياً ، وهو المراد من الثيب المذكور في الحديث .

وذهب أصحاب الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يرجم الذمي . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا ، وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ ، أو كان مجنوناً فلا حد عليه . وإن كان حراً ، عاقلاً بالغاً ، غير أنه لم يحصن بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام ، وإن كان عبداً فعليه جلد خمسين ، وفي تغريبه قولان : إن قلنا يغرب فيه قولان : أصحهما نصف سنة ، كما يجلد خمسين . على نصف حد الحر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة ، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ، والنساء يحبسن ويؤذين .

فالحبس غايته إلى الموت ، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح ، ولهذا قال : { فَإِنْ تَابَا } أي : رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه ، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي : كثير التوبة على المذنبين الخطائين ، عظيم الرحمة والإحسان ، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم ، وسامحهم عن ما صدر منهم .

ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا ، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين ، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم ؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة ، سترًا لعباده ، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات ، ولا مع الرجال ، ولا ما دون أربعة .

ولا بد من التصريح بالشهادة ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وتومئ إليه هذه الآية لما قال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا ، من غير تعريض ولا كناية .

ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس ، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .

أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .

وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .

فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .

ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .

ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .

والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :

أحدهما : الحبس في البيوت .

والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .

قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .

فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .

ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .

هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .

قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .

وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .

والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .

أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .

وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .

وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .

ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .

أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

وقوله : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } أي : واللذان يأتيان{[6790]} الفاحشة فآذوهما . قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير ، والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم .

وقال عكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا .

وقال السدي : نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا .

وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى ، وكأنه يريد اللواط ، والله أعلم .

وقد روى أهل السنن ، من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ " {[6791]}

وقوله : { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصَلُحت أعمالهما وحسنت { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد ثبت في الصحيحين " إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها " أي : ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد ، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ .


[6790]:في جـ، ر، أ: "يفعلان".
[6791]:رواه أبو داود في السنن برقم (4462) والترمذي في السنن برقم (1455) وابن ماجة في السنن برقم (2561).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } : والرجل والمرأة اللذان يأتيانها ، يقول : يأتيان الفاحشة والهاء والألف في قوله : { يأْتِيانها } عائدة على الفاحشة التي في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } والمعنى : واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فآذُوهُما } فقال بعضهم : هما البكران اللذان لم يحصنا ، وهما غير اللاتي عنين بالاَية قبلها . وقالوا : قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } معنيّ به الثيبات المحصنات بالأزواج ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } يعني به : البكران غير المحصنين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكحوا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } البكران فآذوهما .

وقال آخرون : بل عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } الرجلان الزانيان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجلان الفاعلان لا يكْني .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } : الزانيان .

وقال آخرون : بل عني بذلك الرجل والمرأة ، إلا أنه لم يقصد به بكر دون ثيب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجل والمرأة .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } إلى قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما جميعا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فإنْ تَابا وأصْلَحا فأْعَرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء وعبد الله بن كثير ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قال : هذه للرجل والمرأة جميعا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قول من قال : عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة ، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } قصد البيان عن حكم الزواني ، لقيل : والذين يأتونها منكم فآذوهم ، أو قيل : والذي يأتيها منكم ، كما قيل في التي قبلها : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } فأخرج ذكرهنّ على الجمع ، ولم يقل : واللتان يأتيان الفاحشة . وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه ، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد ، وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه ، ولا تخرجها بذكر اثنين ، فتقول : الذين يفعلون كذا فلهم كذا ، والذي يفعل كذا فله كذا ، ولا تقول : اللذان يفعلان كذا فلهما كذا ، إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية . فإذا كان ذلك كذلك ، قيل بذكر الاثنين ، يراد بذلك الفاعل والمفعول به ، فإما أن يذكر بذكر الاثنين والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين فذلك ما لا يعرف في كلامها . وإذا كان ذلك كذلك ، فبيّن فساد قول من قال : عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } الرجلان ، وصحة قول من قال : عني به الرجل والمرأة وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهنّ في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } لأن هذين اثنان وأولئك جماعة . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يتوفين من قبل أن يجعل لهنّ سبيلاً ، لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سبّ وتعيير ، كما كان السبيل التي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المائة ونفي السنة .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .

اختلف أهل التأويل في الأذى الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة من قبل أن يجعل لهما سبيلاً منه ، فقال بعضهم : ذلك الأذى ، أذى بالقول واللسان ، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَآذُوهُما } قال : كانا يؤذيان بالقول جميعا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما } فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنفان ويعيران حتى يتركا ذلك .

وقال آخرون : كان ذلك الأذى ، أذى اللسان ، غير أنه كان سبّا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَآذُوهُما } يعني : سبّا .

وقال آخرون : بل كان ذلك الأذى باللسان واليد . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير ، وضرب بالنعال .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام ، والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيىء باللسان أو فعل ، وليس في الاَية بيان أن ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ ، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئها قطع العذر . وأهل التأويل في ذلك مختلفون ، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد ، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما ، وليس في العلم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ في دين ولا دنيا ولا في الجهل به مضرّة ، إذ كان الله جلّ ثناؤه قد نسخ ذلك من محكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما¹ فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما فما أوجب في سورة النور بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما ، فالرجم الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما وأجمع أهل التأويل جميعا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلاً بالحدود التي حكم بها فيهم .

وقال جماعة من أهل التأويل : إن الله سبحانه نسخ بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : كل ذلك نسخته الاَية التي في النور بالحدّ المفروض .

حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، قال : هذا نسخته الاَية في سورة النور بالحد المفروض .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، نسخ ذلك بآية الجلد ، فقال : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فأنزل الله بعد هذا : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { واللاّتِي يأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } . . . الاَية¹ جاءت الحدود فنسختها .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : نسخ الحدّ هذه الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { فأمْسِكُوهُنّ في البُيُوتِ } . . . الاَية ، قال : نسختها الحدود ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } نسختها الحدود .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، ثم نسخ هذا وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للذكر جلد مائة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ } قال : نسختها الحدود .

وأما قوله : { فإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما } فإنه يعني به جلّ ثناؤه : فإن تابا من الفاحشة التي أتيا ، فراجعا طاعة الله بينهما وأصلحا ، يقول : وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما والعمل بما يرضي الله ، فأعرضوا عنهما ، يقول : فاصفحوا عنهما ، وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به ، عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة ، ولا تؤذوهما بعد توبتهما .

وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } فإنه يعني : أن الله لم يزل راجعا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيما بهم ، يعني : ذا رحمة ورأفة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ واللذان يأتيانها منكم } يعني الزانية والزاني . وقرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون وتمكين مد الألف ، والباقون بالتخفيف من غير تمكين . { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع ، وقيل بالتعيير والجلد . { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر . { إن الله كان توابا رحيما } علة الأمر بالإعراض وترك المذمة . قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد . وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ، والزانية والزاني في الزناة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ واللذان } - تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات . قال أبو علي : حذفت الياء تخفيفاً إذ قد أمن من اللبس في اللذان ، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين ، وقرأ ابن كثير «اللذانّ » بشد النون ، وتلك عوض من الياء المحذوفة ، وكذلك قرأ و < فذانك> و بالتشديد في جميعها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك ، وشدد أبو عمرو ، «فذانك » وحدها ولم يشدد غيرها ، { واللذان } رفع بالابتداء ، وقيل على معنى : فيما يتلى عليكم «اللذان » واختلف في الأذى ، فقال عبادة والسدي : هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة : هو السبُّ والجفاء دون تعيير ، وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه ، قال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة لهن ، محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال ، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه ، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى { من نسائكم } وقوله في الثانية { منكم } ، وقال السدي وقتادة وغيرهما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا القول تام ، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقد رجحه الطبري ، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم » وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور ، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما ، إلا من قال : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد ، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم ، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفاً ، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد ، ثم ورد بالخبر المتواتر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد ، فمن قال : إن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخاً لجلد الثيب ، وهذا الذي عليه الأئمة : أن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، إذ هما جميعاً وحي من الله ، ويوجبان جميعاً العلم والعمل ، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز ، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز ، وفي حديث الغامدية ، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس{[3890]} ، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن ، قال : إنما يكون حكم القرآن موقفاً ، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخاً .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تخيل لا يستقيم ، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ، ولا يرد ذلك نظر ، ولا ينخرم منه أصل ، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها : إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه ، وفي قوله تعالى : { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهوها }{[3891]} البتة ، وهذا نص في الرجم ، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة ، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث بكماله في مسلم{[3892]} . وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي قال له : فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لأقضين بينكما بكتاب الله » ثم أمر أنيساً برجم المرأة إن هي اعترفت ، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن ، وأجمعت الأمة على رفع لفظه ، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى ، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد ، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما ، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها ، وقال : أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه ، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية : فقوا ولا تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول : الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه ، وإذا لم يستقل فليس بناسخ ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها ، بل تنبني مع الجلد وتجتمع ، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت ، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله : لا تجلدوا الثيب ، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد ، واختلف في نفيه ، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة : لا نفي اليوم ، وقالت جماعة : ينفى وقيل : نفيه سجنه ، ولا تنفى المرأة ولا العبد ، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء ، وقوله : { فأعرضوا عنهما } كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة ، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه ، فأمر الله تعالى المؤمنين ، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى ، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا » وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأن تركهم إنما هو إعراض ، ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وأعرض عن الجاهلين }{[3893]} وليس الإعراض في الآيتين أمراً بهجرة ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة ، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى ، والله تعالى تواب ، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة .


[3890]:- ماعز والغامدية والمرأة التي بعث إليها أنيس: قضايا يستند عليها في حدّ الزنا عند الفقهاء (انظر مثلا صحيح مسلم 2/ 34 -35 ط/ 1290). والغامدية: نسبة إلى غامد بالغين المعجمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأنيس: (اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد.
[3891]:- قال القرطبي: أخرجه النسائي عن زيد، والصواب أن الذي خرجه البخاري، ولم يثبت عند جمع المصاحف، وكان في حفظ عمر.
[3892]:- لم أجده في مسلم، ولكنه في باب الحدود عند كل من أبي داود وابن ماجة والموطأ، وأورده الإمام أحمد في مسنده 5/ 182.
[3893]:- من الآية (199) من سورة الأعراف.