12- وما يستوي البحران في علمنا وتقديرنا وإن اشتركا في بعض منافعهما ، هذا ماؤه عذب يقطع العطش لشدة عذوبته وحلاوته وسهولة تناوله ، وهذا ملح شديد الملوحة . ومن كل منهما تأكلون لحماً طريا مما تصيدون من الأسماك وتستخرجون ما تتخذونه زينة كاللؤلؤ والمرجان . وترى - أيها المشاهد - السفن تجرى فيه شاقة الماء بسرعتها ، لتطلبوا شيئاً من فضل الله بالتجارة ، ولعلكم تشكرون لربكم هذه النعم{[184]} .
قوله تعالى : { وما يستوي البحران } يعني : العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال : { هذا عذب فرات } طيب ، { سائغ شرابه } أي : جائز في الحلق هنيء ، { وهذا ملح أجاج } شديد الملوحة . وقال الضحاك : هو المر . { ومن كل تأكلون لحماً طرياً } يعني : الحيتان من العذب والمالح جميعاً ، { وتستخرجون حلية } أي : من المالح دون العذب { تلبسونها } يعني اللؤلؤ . وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما ، لأنه يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك ، { وترى الفلك فيه مواخر } جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، { لتبتغوا من فضله } بالتجارة ، { ولعلكم تشكرون } الله على نعمه .
{ 12 - 14 } { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته ، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم ، وأنه لم يسوِّ بينهما ، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتا ، سائغا شرابها ، لينتفع بها الشاربون والغارسون والزارعون ، وأن يكون البحر ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري ، فملوحته تمنعه من التغير ، ولتكون حيواناته أحسن وألذ ، ولهذا قال : { وَمِنْ كُلٍ } من البحر الملح والعذب { تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحر ، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } من لؤلؤ ومرجان وغيرهما ، مما يوجد في البحر ، فهذه مصالح عظيمة للعباد .
ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ، أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب ، فتراها تمخر البحر وتشقه ، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ، ومن محل إلى محل ، فتحمل السائرين وأثقالهم وتجاراتهم ، فيحصل بذلك من فضل اللّه وإحسانه شيء كثير ، ولهذا قال : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ثم ذكر - سبحانه - نوعا آخر من أنواع بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ . . . } .
والماء العذب الفرات : هو الماء السائغ للشرب ، الذى يشعر الإِنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار . وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى : يقطعه ويزيله ويسكره .
ولاماء الملح الأجاج : هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار . سمى أجاجا من الأجيج وهو تهلب النار ، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا .
قالوا : والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر . فالبحر العذب : مثل للمؤمن ، والبحر الملح : مثل للكافر .
فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه . والآخر ملح أجاج . لا يتساويان فى طعمهما ومذاقهما . وإن اشتركا فى بعض الفوائد - فكذلك المؤمن والكافر ، لا يتساويان فى الخاصية العظمى التى خلقا من أجلها ، وهى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإن اشتركا فى بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة - لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق ، أما الكافر فقد عاند فطرته ، فاصر على الكفر .
وقوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } بيان لبعض النعم التى وهبها - سبحانه - لعباده من وجود البحرين .
أى : ومن كل واحد منهما تأكلون لحماً طريا ، أى : غضا شهيا مفيداً لأجسادكم ، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماء وما يشبهها .
قال بعض العلماء . وفى وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أن ينبغى المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفاسد والتغيير . وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه . .
وفيه - أيضاً - إيماء إلى كمال قدرته - تعالى- حيث أوجد هذا اللحم الطرى النافع فى الماء الملح الأجاج الذى لا يشرب .
وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء ، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر بن عبد الله ، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نضب عنه الماء فكلوه . وما لفظ الماء فكلوه ، وما طفا - على وجه الماء -فلا تأكلوه " .
فالمراد من ميتة البحر فى حديث : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ما لفظه البحر لا مامات فيه من غير آفة .
وقوله - تعالى - : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } بيان لنعمة ثانية من النعم التى تصل إلى الناس عن طريق البحرين .
والحلية - بكسر الحاء - : اسم لما يتجلى به الناس ، ويتزينون بلبسه ، وجمع حلية : حِلًى وحُلًى - بسكر الحاء وضمها - يقال : تحلت المراة إذا لبست الحلى .
أى : ومن النعم التى تصل إليكم عن طريق البحرين ، استخراجكم منهما ما ينفعكم ، وما تتحلى به نساؤكم ، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما .
والتعبير بقوله : { وَتَسْتَخْرِجُونَ } يشير إلى كثرة الإِخراج . فالسين والتاء للتأكيد . كما يشير بأن من الواجب على المسلمين ، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحرين من كنوز نافعة ، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم .
وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكرو ، فقال { تَلْبَسُونَهَا } على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى الأعم الأغلب من الأحوال .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { تَلْبَسُونَهَا } أى : تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهن ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين - فى الغالب - ليحسن فى أعين الرجال . .
وقال بعض العلماء : وفى الآية دليل قرآن واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان ، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة .
وقوله - تعالى - { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } بيان لنعمة ثالثة من نعمه - تعالى - عن طريق وجود البحار فى الأرض .
وأصل المخر : الشق . يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه ، ومخر الماء الأرض إذا شقها .
أى : وترى - أيها العاقل - ببصرك السفن فى كل من البحرين { مَوَاخِرَ } أى تشق الماء بمقدوماتها ، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة . .
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى البحر الملح ، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها فى البحر العذب ، وإن كانت السفن تجرى فى البحرين .
ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى جنس البحر . أى : وترى السفن تشق كل بحر ، لتسير فيه من مكان إلى مكان . .
واللام فى قوله - تعالى - : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق .
أى : أوجدنا البحرين ، وسخرناهما لمنفعتكم ، لتطلبوا أرزاقكم فيهما ، وهذه الأرزاق هى من فضل الله - تعالى - عليكم ، ومن رحمته بكم ، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا ، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا .
ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات . يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة . زاوية تنويع الماء . فهذا عذب سائغ ، وهذا ملح مر . وكلاهما يفترقان ويلتقيان - بتسخيرالله - في خدمة الإنسان .
( وما يستوي البحران . . هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج . . ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها . وترى الفلك فيه مواخر . لتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) . .
إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة ؛ ووراءها حكمة - فيما نعلم - ظاهرة ؛ فأما الجانب العذب السائغ اليسير التناول فنحن نعرف جانباً من حكمة الله فيما نستخدمه وننتفع به ؛ وهو قوام الحياة لكل حي . وأما الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون الضخم :
؛ وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات . وأخيراً الإنسان نفسه . . " .
وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع ، واضح فيه القصد والتدبير ، ومنظور فيه إلى تناسقات وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه . ولا يصنع هذا إلا الله خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه . فإن هذا التنسيق الدقيق لا يجيء مصادفة واتفاقاً بحال من الأحوال . والإشارة إلى اختلاف البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى . وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج منها في عالم المشاعر والاتجاهات والقيم والموازين .
ثم يلتقي البحران المختلفان في تسخيرهما للإنسان :
( ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر ) . .
واللحم الطري هو الأسماك والحيوانات البحرية على اختلافها . والحلية من اللؤلؤ والمرجان . واللؤلؤ يوجد في أنواع من القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء ، فيفرز جسم القوقعة داخل الصدفة إفرازاً خاصاً يحيط به هذا الجسم الغريب ، كي لا يؤذي جسم القوقعة الرخو . وبعد زمن معين يتصلب هذا الإفراز ، ويتحول إلى لؤلؤة ! والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعاباً مرجانية تمتد في البحر أحياناً عدة أميال ، وتتكاثر حتى تصبح خطراً على الملاحة في بعض الأحيان ؛ وخطراً على كل حي يقع في براثنها ! وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلى !
والفلك تمخر البحار والأنهار - أي تشقها - بما أودع الله الأشياء في هذا الكون من خصائص . ولكثافة الماء وكثافة الأجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه . وللرياح كذلك . وللقوى التي سخرها الله للإنسان وعرفه كيف يستخدمها كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من القوى . وكلها من تسخير الله للإنسان .
( لتبتغوا من فضله ) . . بالسفر والتجارة ، والانتفاع باللحم الطري والحلى واستخدام الماء والسفن في البحار والأنهار .
( ولعلكم تشكرون ) . . وقد يسر الله لكم أسباب الشكر ، وجعلها حاضرة بين أيديكم . ليعينكم على الأداء .
هذه آية أخرى يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه ، و { البحران } يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان ، فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا ، و «الفرات » الشديد العذوبة ، و «الأجاج » الشديد الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته ، قال الرماني هو من أججت النار كأنه يحرق من حرارته ، وقرأ عيسى الثقفي «سيّغ شرابه » بغير ألف وبشد الياء ، وقرأ طلحة «مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام ، و «اللحم الطري » الحوت وهو موجود في البحرين ، وكذلك { الفلك } تجري في البحرين ، وبقيت «الحلية » وهي اللؤلؤ والمرجان ، فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما ، وهي إنما تخرج من الملح وذلك تجوز كما قال في آية أخرى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[9701]} [ الرحمن : 22 ] ، وكما قال { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }{[9702]} [ الأنعام : 128 ] ، والرسل إنما هي من الإنس ، وقال بعض الناس بل الحلية تخرج من البحرين ، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء النيسان ، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه ، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه ، فيخرج جوهرة بالعطش وغير ذلك من الحيل ، فهذا هو من الماء الفرات ، فنسب إليه الإخراج لما كان من الحلية بسبب ، وأيضاً فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضاً فإن البحر الفرات كل ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر : [ الطويل ]
فجاء بها ما شئت من لطمية . . . على وجهها ماء الفرات يموج{[9703]}
وليس ذلك بخطإ على ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة ، و { الفلك } في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع ، و { مواخر } جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه ، وقيل الماخرة التي تشق الريح ، وحينئذ يحدث الصوت ، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة بالريح ، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة ، فقال بعضهم «المواخر » التي تجيء وتذهب بريح واحدة ، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام .
قال القاضي أبو محمد : هكذا وقع لفظه في البخاري ، والصواب أن تكون { الفلك } هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى : { لتبتغوا } يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي .
انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإِلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها ، على عظيم مخلوقات الله تعالى ، فصيغ هذا الاستدلال على أسلوب بديع إذ اقتصر فيه على التنبيه على الحكمة الربانية في المخلوقات وهي ناموس تمايزها بخصائص مختلفة واتحاد أنواعها في خصائص متماثلة استدلالاً على دقيق صنع الله تعالى كقوله : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ الرعد : 4 ] ويتضمن ذلك الاستدلال بخلق البحرين أنفسهما لأن ذكر اختلاف مذاقهما يستلزم تذكر تكوينهما .
فالتقدير : وخلق البحرين العذب والأُجاج على صورة واحدة وخالف بين أعراضهما ، ففي الكلام إيجاز حذف ، وإنما قدم من هذا الكلام تفاوت البحرين في المذاق واقتصر عليه لأنه المقصود من الاستدلال بأفانين الدلائل على دقيق صنع الله تعالى .
وفي « الكشاف » : ضرب البحرين العذب والمالح مثلاً للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه { ومن كل تأكلون لحماً طرياً } .
والبحر في كلام العرب : اسم للماء الكثير القار في سعة ، فالفرات والدجلة بَحْران عذْبان وبحر خليج العجم ملح . وتقدم ذكر البحرين عند قوله تعالى : { وهو الذي مرج البحرين } في سورة الفرقان ( 53 ) وقد اتحدا في إخراج الحيتان والحلية ، أي اللؤلؤ والمرجان ، وهما يوجد أجودُهما في بحر العجم حيث مصبّ النهرين ، ولماء النهرين العذب واختلاطه بماء البحر الملح أثر في جودة اللؤلؤ كما بيّناه فيما تقدم في سورة النحل ، فقوله : { ومن كل تأكلون لحماً طرياً } كُلِّيّةٌ ، وقوله : { وتستخرجون حلية } كلُّ لاَ كلية لأن من مجموعها تستخرجون حلية . وكلمة { كل } صالحة للمعنيين ، فعطف { وتستخرجون } من استعمال المشترك في معنييه .
فالاختلاف بين البحرين بالعذوبة والملوحة دليل على دقيق صنع الله . والتخالف في بعض مستخرجاتهما والتماثل في بعضها دليل آخر على دقيق الصنع وهذا من أفانين الاستدلال .
والعذب : الحلو حلاوة مقبولة في الذوق .
والملح بكسر الميم وسكون اللام : الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه ، فأما الشيء الذي يلقى فيه الملح حتى يكتسب ملوحة فإنما يقال له : مَالح ، ولا يقال : ملح .
ومَعنى : { سائغ شرابه } أن شربه لا يكلف النفس كراهة ، وهو مشتق من الإِساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره . قال عبد الله بن يَعرب :
فساغ لي الشراب وكنت قبْلاً *** أكاد أغُصّ بالماء الحميم
والأجاج : الشديد الملوحة ، وتقدم ذكر البحر في قوله تعالى : { ويعلم ما في البر والبحر } في سورة الأنعام ( 59 ) ، وبقية الآية تقدم نظيره في أول سورة النحل .
وتقديم الظرف في قوله : { فيه مواخر } على عكس آية سورة النحل ، لأن هذه الآية مسوقة مساق الاستدلال على دقيق صنع الله تعالى في المخلوقات وأُدمج فيه الامتنان بقوله : { تأكلون } . . . وتستخرجون حلية } وقوله : { لتبتغوا من فضله } فكان المقصد الأول من سياقها الاستدلال على عظيم الصنع فهو الأهم هنا . ولما كان طُفُو الفلك على الماء حتى لا يَغْرِق فيه أظهرَ في الاستدلال على عظيم الصنع من الذي ذكر من النعمة والامتنان قدم ما يدل عليه وهو الظرفية في البحر . والمخر في البحر آية صنع الله أيضاً بخلق وسائل ذلك والإِلهام له ، إلاّ أن خطور السفر من ذلك الوصف أو ما يتبادر إلى الفهم فأخر هنا لأنه من مستتبعات الغرض لا من مقصده فهو يستتبع نعمة تيسير الأسفار لقطع المسافات التي لو قطعت بسير القوافل لطالت مدة الأسفار .
ومن هنا يلمعُ بارقُ الفرقِ بين هذه الآية وآية سورة النحل في كون فعل { لتبتغوا } غير معطوف بالواو هنا ومعطوفاً نظيره في آية النحل لأن الابتغاء علق هنا ب { مواخر } إيقافاً على الغرض من تقديم الظرف ، وفي آية النحل ذكر المخر في عداد الامتنان لأنه به تيسيرَ الأسفار ، ثم فصل بين { مواخر } وعلته بظرف { فيه } ، فصار ما يؤمىء إليه الظرفُ فصلاً بغرض أُدمج إدماجاً وهو الاستدلال على عظيم الصنع بطُفوّ الفلك على الماء ، فلما أريد الانتقال منه إلى غرض آخر وهو العود إلى الامتنان بالمخر لنعمة التجارة في البحر عطف المغاير في الغرض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما يستوي البحران} يعني الماء العذاب والماء المالح.
{هذا عذب فرات} يعني طيب {سائغ شرابه} يسيغه الشارب {وهذا ملح أجاج} مر لا ينبت.
{ومن كل} من الماء المالح والعذب {تأكلون لحما طريا} السمك {وتستخرجون حلية} يعني اللؤلؤ.
{تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر} يعني بالمواخر أن سفينتين تجريان إحداهما مقبلة والأخرى مدبرة بريح واحدة، تستقبل إحداهما الأخرى.
{لتبتغوا} في البحر {من فضله} من رزقه {ولعلكم تشكرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يعتدل البحران فيستويان، أحدهما عَذْب فُرات والفرات: هو أعذب العذب، "وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ "يقول: والآخر منهما ملح أجاج، وذلك هو ماء البحر الأخضر، والأُجاج: المرّ، وهو أشدّ المياه مُلوحة... وقوله: "وَمِنْ كُل تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا" يقول: ومن كلّ البحار تأكلون لحما طَرِيا، وذلك السمك من عذبهما الفرات، وملحهما الأجاج.
"وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها" يعني: الدرّ والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج. وقد بيّنا قبل وجه تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً، وإنما يستخرج من الملح فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
"وَتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ" يقول تعالى ذكره: وترى السفن في كل تلك البحار مواخر، تمخُر الماء بصدورها، وذلك خرقها إياه إذا مرّت، واحدتها ماخرة. يقال منه: مَخَرت تمخُر، وتمخَر مَخْرا، وذلك إذا شقّت الماء بصدورها...
وقوله: "لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم، ولتتصرّفوا فيها في تجاراتكم، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم، وما رزقكم منه من طيبات الرزق، وفاخر الحليّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما يستوي البحران هذا عذب فُرات سائغٌ شرابه وهذا مِلح أُجاج} فيه وجوه من المعتبر:
أحدها: يذكر ألا يستوي في الحكمة الخبيث من الرجال والطيّب منهم كما لا يستوي المالح من الماء والأجاج والعذب منه والسائغ، وقد استوى الطيّب من الرجال والخبيث في منافع الدنيا ومأكلاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز، دل أن هنالك دارا تميّز بينهما وتفرّق.
والثاني: يخبر عن غناه عما أنشأ من الأشياء ليُعلِم أنه لم يُنشئها لحوائج نفسه، ولكن لما ذكرنا...
والثالث: فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر، ودفع الإياس من توحيده، وقطع الرجاء عن عوده إلى الكفر حين أخبر عما يأكلون من الماء المالح الأجاج والعذب السائغ جميعا اللحم الطّري، ما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطّري أن يفسُد من ساعته.
ويذكّرهم أيضا عن قدرته: أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدُّنو منه والقرب من الخوض فيه والذوق منه فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
والرابع: يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حين قال: {ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلية تلبسونها} يذكر عظم نعمه وقدرته حين جعل البحار مسخّرة مذلّلة، يقدرون على استخراج ما فيها من الحلى والجواهر والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار وقطعها بسفن أنشأها لهم، وأجراها في الماء؛ بل الأعجوبة في إجراء السُّفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء، لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاء، دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء...
{لتبتغوا من فضله} هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل الله، إذ قد يكتسب المرء ولا يكون له منه سبب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفرات: الذي يكسر العطش، والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته ...
يحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ: وجرى الفلك فيه، والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِي كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74]...
الأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله؛ وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج، ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، والحلية تؤخذ منهما، ومن يوجد في المتشابهين اختلافا ومن المختلفين اشتباها، لا يكون إلا قادرا مختارا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفيه اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار، ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء، حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها، والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما؛ فقال: {وما يستوي البحران} ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو: {هذا عذب}.
ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: {وتستخرجون حلية تلبسونها}...فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب.
ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: {وترى الفلك} أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: {فيه} أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: {مواخر} قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً: جرت أو استقبلت الريح في جريتها.
ثم علق بالمخر معللاً قوله: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً.
ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: {من فضله}
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم، وأنه لم يسوِّ بينهما، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتا، سائغا شرابها، لينتفع بها الشاربون والغارسون والزارعون، وأن يكون البحر ملحا أجاجا، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري، فملوحته تمنعه من التغير، ولتكون حيواناته أحسن وألذ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات. يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة. زاوية تنويع الماء. فهذا عذب سائغ، وهذا ملح مر. وكلاهما يفترقان ويلتقيان -بتسخيرالله- في خدمة الإنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإِلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها، على عظيم مخلوقات الله تعالى.
البحر في كلام العرب: اسم للماء الكثير القار في سعة.
والعذب: الحلو حلاوة مقبولة في الذوق.
والملح بكسر الميم وسكون اللام: الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه... {سائغ شرابه} أن شربه لا يكلف النفس كراهة، وهو مشتق من الإِساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره.
الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُقرِّب لنا القضية العقلية القيمية فيعرضها لنا في صورة حسية مُشاهدة {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} وكأن الله يقول لنا: كما أن هناك أشياء حسية لا تستوي في الحسِّ، كذلك في القيم أشياء لا تستوي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...3 ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية، ووسائل الزينة، ومسألة الحمل والنقل...
يستخرج من البحار وسائل الزينة المختلفة من أمثال
(اللؤلؤ والمرجان والصدف والدرّ) وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.
وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم أسس التمدّن الإنساني والحياة الاجتماعية، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات بهذا الخصوص إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الأخرى.
بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة، فهناك مسألة تكون الغيوم الأدوية النفط، الألبسة، الأسمدة للأراضي البور، التأثير في إيجاد الرياح.. إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى.