قوله تعالى : { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } أرسلنا إليك { فأرسل معنا بني إسرائيل } أي : خل عنهم وأطلقهم من أعمالك { ولا تعذبهم } لا تتعبهم في العمل وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة { قد جئناك بآية من ربك } قال فرعون : وما هي ؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس { والسلام على من اتبع الهدى } ليس المراد منه التحية ، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم .
{ 47 - 48 } { فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى }
أي : فأتياه بهذين الأمرين ، دعوته إلى الإسلام ، وتخليص هذا الشعب الشريف بني إسرائيل -من قيده وتعبيده لهم ، ليتحرروا ويملكوا أمرهم ، ويقيم فيهم موسى شرع الله ودينه .
{ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } تدل على صدقنا { فَأَلْقَى } موسى { عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } إلى آخر ما ذكر الله عنهما .
{ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي : من اتبع الصراط المستقيم ، واهتدى بالشرع المبين ، حصلت له السلامة في الدنيا والآخرة .
ثم رسم لهما - سبحانه - طريق الدعوة فقال : { فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ . . . } .
أى : فأتيا فرعون ، وادخلا عليه داره أو مكان سلطانه ، وقولا له بلا خوف أو وجل { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } الذى خلقك فسواك فعدلك .
وكان البدء بهذه الجملة لتوضيح أساس رسالتهما ، ولإحقاق الحق من أول الأمر ، ولإشعاره منذ اللحظة الأولى بأنهما قد أرسلهما ربه وربهما ورب العالمين ، لدعوته إلى الدين الحق ، وإلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإلى التخلى عن الكفر والطغيان . وأنهما لم يأتياه بدافع شخصى منهما وإنما أتياه بتكليف من ربه ورب العالمين .
أما الجملة الثانية التى أمرهما الله - تعالى - أن يقولاها لفرعون فقد حكاها - سبحانه - بقوله : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } أى : فأطلق سراح بنى إسرائيل ، ودعهم يعيشون أحرارا فى دولتك ولا تعذبهم باستعبادهم وقهرهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم .
قال - تعالى - : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال الآلوسى : والمراد بالإرسال : إطلاقهم من الأسر ، وإخراجهم من تحت يده العادية ، لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام ، كما ينبىء عنه قوله - سبحانه - { وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } أى : بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت سيطرة القبط ، يستخدمونهم فى الأشعال الشاقة كالحفر والبناء .
وقوله - تعالى - : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } جملة ثالثة تدل على صدقهما فى رسالتهما .
والمراد بالآية هنا : جنسها ، فتشمل العصا واليد وغيرهما من المعجزات التى أعطاها الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - .
أى : قد جئناك بمعجزة من ربك تثبت صدقنا ، وتؤيد مدعانا ، وتشهد بأنا قد أرسلنا الله - تعالى - إليك لهدايتك ودعوتك أنت وقومك إلى الدخول فى الدين الحق .
فالجملة الكريمة تقرير لما تضمنه الكلام السابق من كونهما رسولين من رب العالمين ، وتعليل لوجوب إطلاق بنى إسرائيل ، وكف الأذى عنهم .
أما الجملة الرابعة التى أمرهما الله - تعالى - بأن يقولاها لفرعون فهى قوله - سبحانه - : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } .
أى : وقولا له - أيضا - السلامة من العذاب فى الدارين لمن اتبع الهدى بأن آمن بالله - تعالى - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . .
فالسلام مصدر بمعنى السلامة ، وعلى بمعنى اللام . ويفهم من الآية الكريمة أن من لم يتبع الهدى ، لا سلامة له ، ولا آمان عليه .
وفى هذه الجملة من الترغيب فى الدخول فى الدين الحق ما فيها ، ولذا استعملها النبى - صلى الله عليه وسلم - فى كثير من كتبه ، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فى رسالته إلى هرقل ملك الروم : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى . . .
ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال :
{ فأتياه فقولا : إنا رسولا ربك . فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم . قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى . إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } . .
إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما : { إنا رسولا ربك } ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلهاً هو ربه . وهو رب الناس . فليس هو إلهاً خاصاً بموسى وهارون أو ببني إسرائيل ، كما كان سائداً في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلهاً أو آلهة ؛ ولكل قبيل إلهاً أو آلهة . أو كما كان سائداً في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة .
ثم إيضاح لموضوع رسالتهما : { فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم } . . ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون . لاستنقاذ بني إسرائيل ، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد ، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ان يسكنوها ( إلى أن يفسدوا فيها ، فيدمرهم تدميراً ) .
ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة : { قد جئناك بآية من ربك } تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك ، في هذه المهمة التي حددناها .
ثم ترغيب واستمالة : { والسلام على من اتبع الهدى } : فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى .
{ فائتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل } أطلقهم . { ولا تعذبهم } بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان ، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام ، وتعقيب الإتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان ، ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة { قد جئناك بآية من ربك } جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة ، وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها ، وكذلك قوله { قد جئتكم ببينة } ، { فائت بآية } ، { قال أولو جئتك بشيء مبين } . { والسلام على من اتبع الهدى } وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين أو السلامة في الدارين لهم .
المعنى { فأتيا } فرعون فأعلماه أنكما رسولاي إليه وعبر بفرعون تحقيراً له إذ كان هو يدعي الربوبية ثم أمر بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من غل خدمة القبط وقد تقدم في هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان وهذه جملة ما دعي إليه فرعون والإيمان وإرسال بني إسرائيل ، والظاهر أن رسالته إليه ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل ، وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد وقالا { جئناك } والجائي بها موسى تجوزاً من حيث كانا مشتركين وقوله عليه السلام { من اتبع الهدى } يحتمل أن يكون آخر كلام وفصله فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية كأنهما رغباً بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول فسلما على متبع الهدى وفي هذا توبيخ له ع : وعلى هذه الجهة استعمل الناس هذه الآية في مخاطبتهم ومحاوراتهم ويحتمل أن يكون في درج القول متصلاً بقوله { إنا قد أوحي إلينا } فيقوى على هذا أن يكون خبراً بأن السلامة للمهتدين ، وهذان المعنيان قالت كل واحد منهما فرقة ، لكن دون هذا التلخيص ، وقالوا { السلام } بمعنى السلامة وعلى بمعنى اللام أي السلام ل { من اتبع الهدى } .
الإتيان : الوُصول والحلول ، أي فحُلاّ عنده ، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق ، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته ، فلذا أمِرا بإتيانه ودعوته .
وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره .
وفَعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة ، كقولهم ناقة طروقَة الفَحل ، وعدم المطابقة كقولهم : وَحشية خلوج ، أي اختُلج ولدُها . وجاء الوجهان في نحو ( رسول ) وهما وجهان مستويان . ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء ( 16 ) : { فأتِيا فرعون فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين } وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله .
وأدخل فاء التفريع على طَلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون ؛ إما لأنّه سبقت إشاعَة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب ، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر . وتفريع ذلك على كونهما مرسلَيْن من الله ظاهر ، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته .
وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصداً لأقصى الدعوة ، لأنّ كون الله ربّهما معلوم من قولهما { إنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } وكونه ربّ الناس معلوم بالأحْرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب .
والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة ، لأنه كان يعُدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه .
وجملة { قَدْ جئناك بِآيَةٍ مِن رَبّك } فيها بيان لجملة { إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } فكانت الأولى إجمالاً والثانية بياناً . وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلَيْن من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق . وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها .
واقتصر على أنهما مصاحبان لآيةٍ إظهاراً لكونهما مستعدّيْن لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك . فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل ، ولذلك حكي في سورة الأعراف ( 16 ) قول فرعون : { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة ، وقد تبعتها آيات أخرى .
والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة ؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم ، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه .
وأيضاً لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل . وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى .
والسّلام : السلامة والإكرام . وليس المراد به هنا التحيّة ، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة . ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام ، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره : أسلمْ تَسْلَمْ .
و ( على ) للتمكّن ، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب .
وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى } ، فقوله : { والسلام على من اتّبع الهدى } [ طه : 47 ] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَأْتِياهُ فَقُولا إنّا رَسُولا رَبّكَ" أرسلنا إليك يأمرك أن ترسل معنا بني إسرائيل، فأرسلهم معنا ولا تعذّبهم بما تكلفهم من الأعمال الرديئة.
"قَدْ جِئْناكَ بآيَةٍ معجزة مِنْ رَبّكَ "على أنه أرسلنا إليك بذلك، إن أنت لم تصدّقنا فيما نقول لك أريناكها.
"والسّلامُ عَلى مَنِ اتّبَعَ الهُدَى" يقول: والسلامة لمن اتبع هدى الله، وهو بيانه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... طالَ البلاءُ ببني إسرائيل من جهة فرعون، فتدَاركَهُم الحقُّ سبحانه ولو بعد حين، بذلك أجرى سُنَّتَهُ أنه يُرخي عِنَانَ الظالم، ولكن إذا أَخَذَهُ فإِنَّ أَخْذَهُ أليمٌ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{فأرسل معنا بني إسرائيل} أي: خل عنهم وأطلقهم من أعمالك {ولا تعذبهم} لا تتعبهم في العمل وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة {قد جئناك بآية من ربك} قال فرعون: وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس {والسلام على من اتبع الهدى} ليس المراد منه التحية، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى {فأتيا} فرعون فأعلماه أنكما رسولاي إليه وعبر بفرعون تحقيراً له إذ كان هو يدعي الربوبية ثم أمر بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من غل خدمة القبط وقد تقدم في هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان وهذه جملة ما دعي إليه فرعون والإيمان وإرسال بني إسرائيل، والظاهر أن رسالته إليه ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل، وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد وقالا {جئناك} والجائي بها موسى تجوزاً من حيث كانا مشتركين وقوله عليه السلام {من اتبع الهدى} يحتمل أن يكون آخر كلام وفصله فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية كأنهما رغباً بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول فسلما على متبع الهدى وفي هذا توبيخ له.
وعلى هذه الجهة استعمل الناس هذه الآية في مخاطبتهم ومحاوراتهم ويحتمل أن يكون في درج القول متصلاً بقوله {إنا قد أوحي إلينا} فيقوى على هذا أن يكون خبراً بأن السلامة للمهتدين، وهذان المعنيان قالت كل واحد منهما فرقة، لكن دون هذا التلخيص، وقالوا {السلام} بمعنى السلامة وعلى بمعنى اللام أي السلام ل {من اتبع الهدى}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{فأتياه} كرر الأمر بالإتيان {فقولا إنا رسولا ربك} وخاطباه بقولهما {ربك} تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية...ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا {قد جئناك بآية من ربك} وتكرر أيضاً قولهما {من ربك} على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما...والظاهر أن قوله {والسلام على من اتبع الهدى} فصل للكلام، فالسلام بمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له. وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تمهد ذلك، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان، فقال مؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى: {فأتياه فقولا} أي له؛ ولما كان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما، أكد سبحانه فقال: {إنا} ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا -كما تقدم مطلوباً، ثنى فقال: {رسولا ربك} الذي رباك فأحسن تربيتك بعد أن أوجدك من العدم، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلهما تكذيباً له في ادعائه الربوبية، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما: {فأرسل معنا} عبيده {بني إسرائيل} ليعبدوه، فإنه لا يستحق العبادة غيره {ولا تعذبهم} بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح؛ ثم علل دعوى الرسالة بما يثبتها، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال: {قد جئناك بآية} أي علامة عظيمة وحجة وبرهان {من ربك} الذي لا إحسان عليك إلا منه، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما، فأسلم تسلم، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية، ونسبته إلى كفران الإحسان، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله {والسلام} أي جنسه {على} جميع {من اتبع} بغاية جهده {الهدى} عامة، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم، فالمعنى: و إن أبيت عذبت.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال: {فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك. فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى}.. إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما: {إنا رسولا ربك} ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلهاً هو ربه. وهو رب الناس. فليس هو إلهاً خاصاً بموسى وهارون أو ببني إسرائيل، كما كان سائداً في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلهاً أو آلهة؛ ولكل قبيل إلهاً أو آلهة. أو كما كان سائداً في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة... ثم إيضاح لموضوع رسالتهما: {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم}.. ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون. لاستنقاذ بني إسرائيل، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها (إلى أن يفسدوا فيها، فيدمرهم تدميراً). ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة: {قد جئناك بآية من ربك} تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك، في هذه المهمة التي حددناها. ثم ترغيب واستمالة: {والسلام على من اتبع الهدى}: فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه...
والسّلام: السلامة والإكرام. وليس المراد به هنا التحيّة، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة. ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره: أسلمْ تَسْلَمْ. و (على) للتمكّن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب. وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى}، فقوله: {والسلام على من اتّبع الهدى} [طه: 47] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فاختيار كلمة (الرب) وكلمة (السلام) لهما أكثر من مغزى في هذا المقام، ولذلك استعمل خاتم النبيئين والمرسلين صيغة (السلام على من اتبع الهدى) في رسائله التي دعا بها أقطاب العالم في عصره إلى الإسلام.
... ونلحظ هنا أنهما لم يواجهاه بما ادعاه من الألوهية مرة واحدة، إنما أشارا إلى مقام الربوبية {رسولا ربك} وهذه هزة قوية تزلزل فرعون، ثم تحولا إلى مسألة أخرى، وهي قضية بني إسرائيل، وكان فرعون يسخرهم في خدمته ويعذبهم ويشق عليهم. {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من هذا العذاب {قد جئناك بآية} أي: معجزة {من ربك}: فأعادوا عليه هذه الكلمة مرة أخرى. وقد علمهما الحق سبحانه كيف يدخلون على فرعون؟ وكيف يتحدثون معه في أمر لا يمس كبرياءه وألوهيته. وبنو إسرائيل هم البقية الباقية من يوسف عليه السلام وإخوته، لما جاءوا إلى مصر في أيام العزيز الذي قرب يوسف وجعله على خزائن الأرض...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أعلنا صفتكما ليكون لكما قوة التأثير عليه، ليتوازن الموقف في ميزان القوة أمامه. قولا له إنا رسولا ربك، اذكرا له أن له رباً خلقه وأنعم عليه فهو يملك ما لا يملكه غيره، وهو الذي يملك حياته وموته، لأن هذه الكلمة هي التي تخفف من كبريائه، وتسقط سطوته الطاغية عند نفسه، وتوحي إليه بمشاعر الضعف، فهو ليس رباً ولكنه مربوب، وليس سيداً ولكنه عبد.. ثم أعلنا له المطلب الذي يتحدى موقعه، واختصرا المسألة وقدماها بشكل حاسم.. المواجهة بين موسى (عليه السلام) وفرعون..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الصحيح أنّ دعوة موسى لم تكن من أجل نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة فقط، بل كانت وبشهادة سائر آيات القرآن تهدف أيضاً إلى نجاة فرعون والفراعنة أنفسهم من قبضة الشرك وعبادة الأوثان. إلاّ أنّ أهميّة هذا الموضوع، وارتباطه المنطقي بموسى كان السبب في أن يضع إصبعه على هذه المسألة بنفسه، لأنّ استغلال واستعباد بني إسرائيل مع كلّ ذلك التعذيب والأذى لم يكن أمراً يمكن توجيهه...
ثمّ أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما، فتقول: قولا له: (قد جئناك بآية من ربّك) فإنّا لا نتكلم اعتباطاً أو جزافاً، ولا نتحدّث من دون أن نمتلك الدليل، وبناءً على هذا، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل، وأن تقبله إن كان صحيحاً ومنطقيّاً. ثمّ تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين: (والسلام على من اتّبع الهدى). وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضاً إلى معنى آخر، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم، ومن مشاكل الحياة الفردية والاجتماعية، من نصيب اُولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائية لدعوة موسى.