إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَٰكَ بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ} (47)

{ فَأْتِيَاهُ } أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار ، وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليلِه بما بعده { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } أُمرا بذلك تحقيقاً للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه ، وكذا التعرّضُ لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إسرائيل } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما ، والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ ، ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءَهم ، وتوسيطُ حكمِ الإرسال بين بيان رسالتِهما وبين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون ، فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة ، ولأن في بيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى ، فتأخيرُ ذلك عنه مُخِلٌّ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم ، وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلاّ .

{ قَدْ جئناك بآيَةٍ مّن رَّبّكَ } تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ ، فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتَهما ويُقِرّها ويوجب الامتثالَ بأمرهما ، وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل ، وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ } وقولُه تعالى : { أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيء مُّبِينٍ } وأما قوله تعالى : { فَأْتِ بآية إن كنت من الصادقين } فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات { والسلام } المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين { على مَنِ اتبع الهدى } بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق ، وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفى .