التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَٰكَ بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ} (47)

الإتيان : الوُصول والحلول ، أي فحُلاّ عنده ، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق ، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته ، فلذا أمِرا بإتيانه ودعوته .

وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره .

وفَعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة ، كقولهم ناقة طروقَة الفَحل ، وعدم المطابقة كقولهم : وَحشية خلوج ، أي اختُلج ولدُها . وجاء الوجهان في نحو ( رسول ) وهما وجهان مستويان . ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء ( 16 ) : { فأتِيا فرعون فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين } وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله .

وأدخل فاء التفريع على طَلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون ؛ إما لأنّه سبقت إشاعَة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب ، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر . وتفريع ذلك على كونهما مرسلَيْن من الله ظاهر ، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته .

وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصداً لأقصى الدعوة ، لأنّ كون الله ربّهما معلوم من قولهما { إنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } وكونه ربّ الناس معلوم بالأحْرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب .

والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة ، لأنه كان يعُدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه .

وجملة { قَدْ جئناك بِآيَةٍ مِن رَبّك } فيها بيان لجملة { إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } فكانت الأولى إجمالاً والثانية بياناً . وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلَيْن من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق . وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها .

واقتصر على أنهما مصاحبان لآيةٍ إظهاراً لكونهما مستعدّيْن لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك . فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل ، ولذلك حكي في سورة الأعراف ( 16 ) قول فرعون : { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين } وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة ، وقد تبعتها آيات أخرى .

والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة ؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم ، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه .

وأيضاً لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل . وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى .

والسّلام : السلامة والإكرام . وليس المراد به هنا التحيّة ، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة . ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام ، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره : أسلمْ تَسْلَمْ .

و ( على ) للتمكّن ، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب .

وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى } ، فقوله : { والسلام على من اتّبع الهدى } [ طه : 47 ] تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام .