18- وأنزلنا من السماء مطراً بحكمة وتقدير في تكوينه وإنزاله ، وتيسيراً للانتفاع به جعلناه مستقراً في الأرض علي ظهرها وفي جوفها ، وإنا لقادرون علي إزالته وعدم تمكينكم من الانتفاع به ، ولكنا لم نفعل رحمة بكم ، فآمنوا بخالقه واشكروه{[141]} .
قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماءً بقدر } يعلمه الله . قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة ، { فأسكناه في الأرض } يريد ما يبقى في الغدران والمستنقعات ، ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر . وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء ، { وإنا على ذهاب به لقادرون } حتى تهلكوا عطشاً وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم . وفي الخبر : " إن الله عز وجل أنزل أربعة أنهار من الجنة : سيحان ، وجيجان ، ودجلة ، والفرات " . وروى مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل أنزل من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، استودعها الله الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله عز وجل : { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : { وإنا على ذهاب به لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا " . وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن يوسف ، عن عثمان بن سعيد بالإجازة ، عن سعيد بن سابق الإسكندراني ، عن مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان .
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم ، فلا ينقصه ، بحيث لا يكفي الأرض والأشجار ، فلا يحصل منه المقصود ، ولا يزيده زيادة لا تحتمل ، بحيث يتلف المساكن ، ولا تعيش معه النباتات والأشجار ، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من دوامه ، { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } أي : أنزلناه عليها ، فسكن واستقر ، وأخرج بقدرة منزله ، جميع الأزواج النباتية ، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض ، بحيث لم يذهب نازلا ، حتى لا يوصل إليه ، ولا يبلغ قعره ، { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } إما بأن لا ننزله ، أو ننزله ، فيذهب نازلا لا يوصل إليه ، أو لا يوجد منه المقصود منه ، وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته ، ويقدروا عدمها ، ماذا يحصل به من الضرر ، كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }
ثم بين - سبحانه - بعض النعم التى تأتينا من جهة هذه الطرائق فقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض . . } .
أى : وأنزلنا لكم - أيها الناس - بقدرتنا ورحمتنا ، ماء بقدر . أى : أنزلناه بمقدار معين ، بحيث لا يكون طوفاناً فيغرقكم ، ولا يكون قليلاً فيحصل لكم الجدب والجوع والعطش . وإنما أنزلناه بتقدير مناسب لجلب المنافع ، ودفع المضار ، كما قال - سبحانه - فى آية أخرى : { . . . وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } أى : هذا الماء النازل من السماء بتقدير معين منا تقتضيه حكمتنا ، جعلناه ساكناً مستقراً فى الأرض ، لتنعموا به عن طريق استخراجه من الآبار والعيون وغيرها .
وفى هذه الجملة الكريمة إشارة إلى أن المياه الجوفيى الموجودة فى باطن الأرض ، مستمدة من المياه النازلة من السحاب عن طريق المطر .
وهذا ما قررته النظريات العلمية الحديثة بعد مئات السنين من نزول القرآن الكريم . وبعد أن بقى العلماء دهوراص طويلة ، يظنون أن المياه التى فى جوف الأرض ، لا علاقة لها بالمياه النازلة على الأرض عن طريق المطر .
وقوله - سبحانه - : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } بيان لمظهر من مظاهر قدرته ورأفته ورحمته - تعالى - بعباده .
أى : وإنا على إذهاب هذا الماء الذى أسكناه فى باطن الأرض لقادرون ، بأن نجعله يتسرب إلى أسفل طبقات الأرض لا تستطيعون الوصول إليه ، أو بأن نزيله من الأرض إزالة تامة ، لأن القادر على إنزاله قادر على إزالته وإذهابه ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم ، وشفقة عليكم ، فاشكرونا على نعمنا وضعوها فى مواضعها الصحيحة .
قال صاحب الكشاف : " قوله : { على ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل .
والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان باقتدرا المذهب ، وأنه لا يتعايى عليه شىء إذا أراده ، وهو أبلغ فى الإبعاد ، من قوله :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } فعلى العباد أن يستعظموا النعمة فى الماء . ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ . . }
( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ؛ وإنا على ذهاب به لقادرون ) . .
وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالأرض . فالماء نازل من السماء ؛ وله علاقة بتلك الأفلاك . فتكوين الكون على نظامه هذا ، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء ، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض .
ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ؛ وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك . . نظرية حديثة . فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية . ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام .
( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) . . بحكمة وتدبير ، لا أكثر فيغرق ويفسد ؛ ولا أقل فيكون الجدب والمحل ؛ ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة . .
( فأسكناه في الأرض ) . . وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم .
( في قرار مكين ) . . كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة . . وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير . .
( وإنا على ذهاب به لقادرون ) . . فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته . أو بغير هذا من الأسباب . فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته . إنما هو فضل الله على الناس ونعمته .
{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر } بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره ، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم . { فأسكناه } فجعلناه ثابتا مستقرا . { في الأرض وإنا على ذهاب به } على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه . { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير { ذهاب } إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } .
وقوله تعالى : { ماء بقدر } ، قال بعض العلماء أراد المطر ، وقال بعضهم إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل ، والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى ، وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ويمكن أَن يقيد هذا بالعذب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض ، ولا محالة أَن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء ، وقوله ، { بقدر } ، أي على مقدار مصلح لأَنه لو كثر أهلك .