39- ألْهمناها أن تضعك - طفلا رضيعاً - في الصندوق ، وأن تلقى به في النيل ، لننجيك من قتل فرعون ، إذ كان يقتل من يولد في بني إسرائيل من الذكور ، وسخرنا الماء لِيُلْقى الصندوق بالشاطئ ، وشاءت إرادتنا أن يأخذ الصندوق فرعون عدوى وعدوك ، وأحببتك حب رحمة وولاية ، ليحبك كل من يراك ، ولتربى تربية كريمة ملحوظاً برعايتي .
فقال { أن اقذفيه في التابوت } يعني : ألهمناها أن اجعليه في التابوت فاقذفيه في اليم { فاقذفيه في اليم } يعني : نهر النيل { فليلقه اليم بالساحل } يعني : شاطئ النهر لفظه أمر ، ومعناه خبر ، ومجازه حتى يلقيه اليم بالساحل { يأخذه عدو لي وعدو له } يعني : فرعون . فاتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى وقيرت رأسه وخصاصه يعني : شقوقه ، ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا تابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسه ، فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك فذلك قوله تعالى : { وألقيت عليك محبةً مني } قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه . قال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى ما رآه أحد إلا عشقه { ولتصنع على عيني } يعني : لتربى بمرآى ومنظر مني ، قرأ أبو جعفر : ولتصنع بالجزم .
ثم قذفته في اليم ، أي : شط نيل مصر ، فأمر الله اليم ، أن يلقيه في الساحل ، وقيض أن يأخذه ، أعدى الأعداء لله ولموسى ، ويتربى في أولاده ، ويكون قرة عين لمن رآه ، ولهذا قال : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } فكل من رآه أحبه { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة أجلّ وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه ؟ ! فلا ينتقل من حالة إلى حالة ، إلا والله تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى ، ومن حسن تدبيره ، أن موسى لما وقع في يد عدوه ، قلقت أمه قلقا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكادت تخبر به ، لولا أن الله ثبتها وربط على قلبها ، ففي هذه الحالة ، حرم الله على موسى المراضع ، فلا يقبل ثدي امرأة قط ، ليكون مآله إلى أمه فترضعه ، ويكون عندها ، مطمئنة ساكنة ، قريرة العين ، فجعلوا يعرضون عليه المراضع ، فلا يقبل ثديا .
ثم وضح - سبحانه - ما أوحاه إلى أم موسى فقال : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ . . . } .
و { أَنِ } فى قوله { أَنِ اقذفيه } مفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه .
والمراد بالقذف هنا : الوضع ، والمراد به فى قوله { فاقذفيه فِي اليم } الإلقاء فى البحر وهو نيل مصر .
والتابوت : الصندوق الذى يوضع فيه الشىء .
والمعنى : لقد كان من رعايتنا لك يا موسى أن أوحينا إلى أمك عندما خافت عليك القتل : أن ضعى ابنك فى التابوت ، ثم بعد ذلك اقذفيه بالتابوت فى البحر ، وبأمرنا وقدرتنا يلقى اليم بالتابوت على شاطىء البحر وساحله ، وفى هذه الحالة يأخذه عدو لى وعدو له ، وهو فرعون الذى طغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى .
والضمائر كلها تعود إلى موسى - عليه السلام - وقيل إن الضمير فى قوله { فاقذفيه فِي اليم } .
وفى قوله { فَلْيُلْقِهِ } يعود إلى التابوت ، والأول أرجح ، لأن تفريق الضمائر هنا لا داعى له ، بل الذى يقتضيه بلاغة القرآن الكريم ، عودة الضمائر إلى موسى - عليه السلام - .
قال بعض العلماء : وصيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } فيها وجهان معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن صيغة الأمر معناها الخبر : قال أبو حيان فى البحر : وقوله { فَلْيُلْقِهِ } أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .
الثانى : أن صيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ } أريد بها الأمر الكونى القدرى كقوله : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله - تعالى - أمره بذلك كونا وقدرا . . .
وقوله { يَأْخُذْهُ } مجزوم فى جواب الطلب وهو قوله { فَلْيُلْقِهِ . . } إذ أنه على الوجه الأول يكون الطلب باعتبار لفظه وصيغته .
وقوله - سبحانه - { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } بيان للمنة الثانية .
قال الآلوسى : وكلمة " منى " متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحذوف ، مؤكدة لما فى تتنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية . أى : وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى - لا من غيرى - قد زرعتها فى القلوب ، فكل من رآك أحبك .
ولقد كان من آثار هذه المحبة : عطف امرأة فرعون عليه ، وطلبها منه عدم قتله ، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدا .
وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى فى صغره معززا مكرما فى بيت فرعون مع أنه فى المستقبل سيكون عدوا له .
وهكذا رعاية الله - تعالى - ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشر والطغيان آمنا مطمئنا .
قال ابن عباس : أحب الله - تعالى - موسى ، وحببه إلى خلقه .
وقوله - تعالى - : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } بيان للمنة الثالثة . .
أى : أوحيت إلى أمك بما أوحيت من أجل مصلحتك ومنفعتك وألقيت عليك محبة منى ، ليحبك الناس ، ولتصنع على عينى . أى : ولتربى وأنت محاط بالحنو والشفقة تحت رعايتى وعنايتى وعينى ، كما يراعى الإنسان بعينه من يحبه ويهتم بأمره .
وهذا ما حدث لموسى فعلا ، فقد عاش فى طفولته تحت عين فرعون ، وهو عدو الله - تعالى - ومع ذلك لم تستطع عين فرعون أن تمتد بسوء إلى موسى ، لأن عين الله - تعالى - كانت ترعاه وتحميه من بطش فرعون وشيعته .
فالجملة الكريمة فيها من الرفق بموسى - عليه السلام - ومن الرعاية له ، ما يعجز القلم عن وصفه .
وكيف يستطيع القلم وصف حال إنسان قال الله فى شأنه : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } .
قال صاحب الكشاف : أى : ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشىء بعينه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع ؛ اصنع هذا على عينى إنى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتى .
وقوله : { وَلِتُصْنَعَ } معطوف على علة مضمرة مثل : ليتعطف عليك . . . أو حذف معلله أى : ولتصنع على عينى فعلت ذلك .
( أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل ) . .
حركات كلها عنف وكلها خشونة . . قذف في التابوت بالطفل . وقذف في اليم بالتابوت . وإلقاء للتابوت على الساحل . . ثم ماذا ? أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل . من يتسلمه ? ( عدو لي وعدو له ) .
وفي زحمة هذه المخاوف كلها . وبعد تلك الصدمات كلها . ماذا ? ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة ? ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية ?
( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) ! ! !
يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعا تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج . وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء ؛ ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول . .
إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد . مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف . . والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال : ( ولتصنع على عيني ) . . وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب : ( ولتصنع على عيني )وكيف يصف لسان بشري ، خلقا يصنع على عين الله ? إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه . . إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية . فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله ? إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه .
ولتصنع على عيني . تحت عين فرعون - عدوك وعدوي - وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع . ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني . ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني .
{ أن اقذفيه في التابوت } بأن اقذفيه ، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول . { فاقذفيه في اليم } والقذف يقال للإلقاء وللموضع كقوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب } وكذلك الرمي كقوله :
*** غلام رماه الله بالحسن يافعا ***
{ فليلقه اليم بالساحل } لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به ، وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم ، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض . { يأخذه عدو لي وعدو له } جواب { فليلقه } وتكرير { عدو } للمبالغة ، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع . قيل إنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه وتعالى : { وألقيت عليك محبة مني } أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون ، ويجوز أن يتعلق { مني } ب ألقيت أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لآن الماء يسحله فالتقط منه ، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره . { ولتصنع على عيني } لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك ، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك ، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك . وقرئ و { ولتصنع } بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر { ولتصنع } بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري .