قوله عز وجل :{ فصل لربك وانحر } قال محمد بن كعب : إن أناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل . وقال عكرمة وعطاء وقتادة : { فصل لربك } صلاة العيد ويوم النحر ، وانحر نسكك . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد : فصل الصلوات المفروضة بجمع ، { وانحر } البدن بمنىً . وروي عن أبي عن ابن عباس قال : { فصل لربك وانحر } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر .
ولما ذكر منته عليه ، أمره بشكرها فقال : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر ؛ لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات .
ولأن الصلاة تتضمن الخضوع [ في ] القلب والجوارح لله ، وتنقلها في أنواع العبودية ، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر ، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد بالصلاة : المداومة عليها .
أى : ما دمنا قد أعطيناك هذه النعم الجزيلة ، فداوم على شكرك لنا ، بأن تواظب على أداء الصلاة أداء تاما ، وبأن تجعلها خالصة لربك وخالقك ، وبأن تواظب - أيضاً - على نحرك الإِبل تقرباً إلى ربك . كما قال - سبحانه - { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين . لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين }
بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله : ( فصل لربك وانحر ) . . غير ملق بالا إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها ؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه ؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعا ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .
وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي : كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك النهرُ -الذي تقدم صفته- فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له . كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 ، 163 ] قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : يعني بذلك نحر البُدْن ونحوها . وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والربيع ، وعطاء الخراساني ، والحكم ، وإسماعيل{[30627]} بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف . وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية [ الأنعام : 121 ] .
وقيل : المراد بقوله : { وَانْحَرْ } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر . يروى هذا عن علي ، ولا يصح . وعن الشعبي مثله .
وعن أبي جعفر الباقر : { وَانْحَرْ } يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة .
وقيل : { وَانْحَرْ } أي : استقبل بنحرك القبلة . ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي{[30628]} - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال رسول الله : " يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ " فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ارفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة .
وهكذا{[30629]} رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم ، به . {[30630]}
وعن عطاء الخراساني : { وَانْحَرْ } أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال . رواه ابن أبي حاتم .
[ كل هذه الأقوال غريبة جدا ]{[30631]} والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد{[30632]} ثم ينحر نسكه ، ويقول : " من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك . ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله ، إني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم . قال : " شاتك شاة لحم " . قال : فإن عندي عناقا هي أحب إليَّ من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : " تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك " . {[30633]}
قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة{[30634]} ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كِفَاء له ، وخصك به . {[30635]}
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمد بن كعب القرظي ، وعطاء .
وقوله تعالى : { فصلّ لربك وانحر } أمر بالصلاة على العموم ، ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها ، والنحر : نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس ، فكأنه قال : ليكن شغلك هذين ، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد ، وقال أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقال قتادة والقرطبي وغيره : في الآية طعن على كفار مكة ، أي إنهم يصلون لغير الله مكاء{[12007]} وتصدية ، وينحرون للأصنام ونحوه ، فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط مستقيم . وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح قريش . قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : صل وانحر الهدي ، وعلى هذا تكون الآية من المدني . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : معنى الآية : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة ، فالنحر على هذين ليس بمصدر نحر ؛ بل هو الصدر . وقال آخرون المعنى : ارفع يدك في استفتاح صلاتك عند نحرك .
وقوله : { فصل لربك } اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها ، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته .
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء : إنه أبتر ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } [ العلق : 9 ، 10 ] لأنهم إنما نهَوْه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم ، وكذلك النحر لله .
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله : { فصل لربك } دون : فصلِّ لنا ، لما في لفظ الرب من الإِيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلاً عن فرط إنعامه .
وإضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه ، وفيه تعريض بأنه يربُّه ويرأف به .
ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له ، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } في سورة الحجر ( 97 ، 98 ) .
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً ، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم .
وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : { فصل لربك وانحر } أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية .
وأفادت اللام من قوله : { لربك } أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها .
وعطف { وانحر } على { فصل لربك } يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } [ مريم : 38 ] أي وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله .
وإن كانت السورة مدنية ، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مراداً به الضحايا يومَ عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله : { فصل لربك } مراد به صلاة العيد ، ورُوي ذلك عن مالكٍ في تفسير الآية وقال : لم يبلغني فيه شيء .
وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً . ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة . وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير « انحر » تجعله لفظاً غريباً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال : { فصل لربك } يعني الصلوات الخمس { وانحر } البدن يوم النحر ، فإن المشركين لا يصلون ولا يذبحون لله عز وجل ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب ، ومعنى قوله : { وانْحَرْ }؛
فقال بعضهم : حضّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة ، وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } ...
عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره ...
وقال آخرون : بل عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } : الصلاة المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } أن يرفع يديه إلى النحر ، عند افتتاح الصلاة والدخول فيها ...
وقال آخرون : عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } : نحر البُدْن ... عن سعيد بن جُبير وحجّاج ، أنهما قالا في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الغداة بجَمْع ، ونحر البُدن بمِنَى ...
عن ابن عباس { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، والنحر : النّسُك والذبح يوم الأضحى ...
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : صلّ يوم النحر صلاة العيد ، وانحر نُسُكَك ...
وقال آخرون : قيل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوما كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغيره ، فقيل له : اجعل صلاتَك ونحرَك لله ؛ إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره ...
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية يوم الحُدَيْبية ، حين حُصِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وصُدّوا عن البيت ، فأمره الله أن يصلي ، وينحر البُدْن ، وينصرف ، ففعل ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فصلّ وادع ربّك وَسَلْه ...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتَك كلّها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كُفْء له ، وخصك به ، من إعطائه إياك الكوثر .
وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته ، وإنعامه عليه بالكوثر ، ثم أتبع ذلك قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } ، فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له ، والنحر على الشكر له ، على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه ، بإعطائه إياه الكوثَر ، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض ، وبعض النحر دون بعض ، وجه ؛ إذ كان حثا على الشكر على النّعم .
فتأويل الكلام إذن : إنا أعطيناك يا محمد الكوثر ، إنعاما منا عليك به ، وتكرمة منا لك ، فأخلص لربك العبادة ، وأفرد له صلاتك ونُسُكَك ، خلافا لما يفعله من كفر به ، وعبد غيره ، ونحر للأوثان .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والمعنى : أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطي ذلك كله أنا إله العالمين ، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان : إصابة أشرف عطاء ، وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم ؛ فاعبد ربك الذي أعزّك بإعطائه ، وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت ، مخالفاً لهم في النحر للأوثان .
قوله تعالى : { فصل لربك وانحر } في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : { فصل } وجوه؛
( الأول ) : أن المراد هو الأمر بالصلاة ، فإن قيل : اللائق عند النعمة الشكر ، فلم قال : فصل ولم يقل : فاشكر ؟
( الأول ) : أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان ( أحدها ) : يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره ( والثاني ) : باللسان وهو أن يمدحه ( والثالث ) : بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له ، والصلاة مشتملة على هذه المعاني ، وعلى ما هو أزيد منها، فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن ( وثانيها ) أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكرا لكنه كان من أول أمره عارفا بربه مطيعا له شاكرا لنعمه ، أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي ، قال : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } ... فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة ، فكأنه قال : أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك.
( القول الثاني ) : { فصل لربك } أي فاشكر لربك ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله { فصل } وجوها؛
( أحدها ) : التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي .
( وثانيها ) : أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة ، إلى ما قرره بقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ثم إنه خص محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب بمزيد مبالغة ، وهو قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ولأنه قال له : { فإذا فرغت فانصب } أي فعليك بأخرى عقيب الأولى، فكيف بعد وصول نعمتي إليك ، ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك .
( القول الثالث ) : { فصل } أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء ، وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول : قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك : { بالكوثر } فكيف بعد سؤالك لكن : «سل تعطه واشفع تشفع » وذلك لأنه كان أبدا في هم أمته ، واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع .
المسألة الثانية : في قوله : { وانحر } قولان :
الأول : وهو قول عامة المفسرين : أن المراد هو نحر البدن.
( والقول الثاني ) : أن المراد بقوله : { وانحر } فعل يتعلق بالصلاة ، إما قبلها أو فيها أو بعدها ... [و]حمله على نحر البدن أولى لوجوه؛
( أحدها ) : هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها .
( وثانيها ) : أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له : فصل وانحر لربك.
( وثالثها ) : أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله : { فصل لربك } فوجب أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه.
( ورابعها ) أن قوله : { فصل } إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : { وانحر } إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين.
( وخامسها ) : أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة ، فيجب حمل كلام الله عليه ...
المسألة الرابعة : اللام في قوله : { لربك } فيها فوائد؛
الفائدة الأولى : هذه اللام للصلاة كالروح للبدن ، فكما أن البدن من الفرق إلى القدم ، إنما يكون حسنا ممدوحا إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتا فيكون مرميا ، كذا الصلاة والركوع والسجود ، وإن حسنت في الصورة وطالت ، لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية ، والمراد من قوله تعالى لموسى : { وأقم الصلاة لذكري } وقيل : إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له : لتكن صلاتك ونحرك لله .
الفائدة الثانية : كأنه تعالى يقول : ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءاة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص .
المسألة الخامسة : الفاء في قوله : { فصل } تفيد سببية أمرين؛
( أحدهما ) : سببية العبادة كأنه قيل : تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية.
( والثاني ) : سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له : إنك أبتر فقيل له : كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة ، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم .
واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب ، والفاء في قوله : { فصل } اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم ، لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال : «وجعلت قرة عيني في الصلاة » ولقد صلى حتى تورمت قدماه ، فقيل له : أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا » فقوله : «أفلا أكون عبدا شكورا » إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله : { فصل } .
المسألة السادسة : كان الأليق في الظاهر أن يقول : إن أعطيناك الكوثر ، فصل لنا وانحر . لكنه ترك ذلك إلى قوله : { فصل لربك } لفوائد؛
( إحداها ) : أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة.
( وثانيها ) : أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة ...
المسألة السابعة : قوله { فصل لربك } أبلغ من قوله : فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه .
المسألة الثامنة : في الآية سؤالان :
( أحدهما ) : أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة ، فلم كان المذكور ههنا هو النحر ؟ ( والثاني ) : لما لم يقل : ضحي حتى يشمل جميع أنواع الضحايا ؟
( والجواب ) : عن الأول ، أما على قول من قال : المراد من الصلاة صلاة العيد ، فالأمر ظاهر فيه ، وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة ، فلوجوه؛
( أحدها ) : أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان ، فقيل له : اجعلهما لله ................................................................
( وثالثها ) : أن أعز الأموال عند العرب ، هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيها على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها ، روي أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا ، ثم أمر عليا عليه السلام بذلك ، وكانت النوق يزدحمن على رسول الله ، فلما أخذ على السكين تباعدت منه.
( والجواب عن الثاني ) : أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا ، وأيضا فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل ...
المسألة العاشرة : السورة مكية في أصح الأقوال ، وكان الأمر بالنحر جاريا مجرى البشارة بحصول الدولة ، وزوال الفقر والخوف .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فصل } أي بقطع العلائق من الخلائق بالوقوف بين يدي الله في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم ، خلافاً للساهي عنها ، والمرائي فيها...{ لربك } أي المحسن إليك بذلك سراً وعلناً مراغماً من شئت ، فلا سبيل لأحد عليك { وانحر } أي أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لم يدعهم ويمنعهم الماعون ؛ لأن النحر أفضل نفقات العرب ؛ لأن الجزور الواحد يغني مائة مسكين ، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل ، ولذا عبر عن هذا المراد بالنحر ليفهم الزجر عما كانوا يفعلونه من الذبح للأوثان ، ومن معناه أيضاً أظهر الذل والمسكنة والخشوع في الصلاة بوضع اليمنى على اليسرى تحت النحر هيئة الذليل الخاضع ....
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً ، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم . وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : { فصل لربك وانحر } أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية . وأفادت اللام من قوله : { لربك } أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها . وعطف { وانحر } على { فصل لربك } يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } [ مريم : 38 ] أي وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله . وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً . ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة .