الأولى : قوله تعالى : { فصل } أي أقم الصلاة المفروضة عليك ، كذا رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال قتادة وعطاء وعكرمة : { فصل لربك } صلاة العيد ويوم النحر . { وانحر } نسكك . وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر . وقال سعيد بن جبير أيضا : صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع{[16491]} ، وانحر البدن بمني ، وقال سعيد بن جبير أيضا : نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف ، ففعل ذلك . قال ابن العربي : أما من قال : إن المراد بقوله تعالى : { فصل } : الصلوات الخمس ، فإنها ركن العبادات ، وقاعدة الإسلام ، وأعظم دعائم الدين . وأما من قال : إنها صلاة الصبح بالمزدلفة ؛ فلأنها مقرونة بالنحر ، وهو في ذلك اليوم ، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها ، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر " .
قلت : وأما من قال إنها صلاه العيد ، فذلك بغير مكة ؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع ، فيما حكاه ابن عمر . قال ابن العربي : فأما مالك فقال : ما سمعت فيه شيئا ، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر ، والنحر بعدها . وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب : المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة . وروي عن ابن عباس أيضا . وروي عن علي أيضا : أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره . وكذا قال جعفر بن علي : " فصل لربك وانحر " قال : يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر . وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت { فصل لربك وانحر } قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها " ؟ قال : ( ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ، أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره ) . وعن أبي صالح عن ابن عباس قال : استقبل القبلة بنحرك . وقاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص . ومنه قول الشاعر :
أبا حكم ما أنت عَمُّ مُجَالِدٍ *** وسَيِّدُ أهلِ الأبْطَحِ المُتَنَاحِرِ{[16492]}
أي المتقابل . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : منازلنا{[16493]} تتناحر ، أي تتقابل ، نحر هذا بنحر هذا ، أي قبالته . وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ، من قولهم : منازلهم تتناحر ، أي تتقابل . وروي عن عطاء قال : أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره . وقال سليمان التيمي : يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك . وقيل : { فصل } معناه : واعبد . وقال محمد بن كعب القرظي : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر } يقول : إن ناسا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، وقد أعطيناك الكوثر ، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله . قاله ابن العربي : والذي عندي أنه أراد : اعبد ربك ، وانحر له ، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر ، وبالحري{[16494]} أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر ، وهو الخير الكثير ، الذي أعطاكه الله ، أو النهر الذي طينه مسك ، وعدد آنيته نجوم السماء ، أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر ، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة ، فذلك يبعد في التقدير والتدبير ، وموازنة الثواب للعبادة . والله أعلم .
الثانية : قد مضى القول في سورة " الصافات " {[16495]} في الأضحية وفضلها ، ووقت ذبحها ، فلا معنى لإعادة ذلك . وذكرنا أيضا في سورة " الحج " {[16496]} جملة من أحكامها . قال ابن العربي : ومن عجيب الأمر : أن الشافعي قال : إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه ، والله تعالى يقول في كتابه : { فصل لربك وأنحر } ، فبدأ بالصلاة قبل النحر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره ، عن البراء بن عازب ، قال : " أول ما نبدأ به في يومنا هذا : نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعل فقد أصاب نسكنا ، ومن ذبح قبل ، فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء " . وأصحابه ينكرونه ، وحبذا الموافقة .
الثالثة : وأما ما روي عن علي عليه السلام{ فصل لربك وانحر } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، خرجه الدارقطني ، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأول : لا توضع فريضة ولا نافلة ؛ لأن ذلك من باب الاعتماد . ولا يجوز في الفرض ، ولا يستحب في النفل . الثاني : لا يفعلها في الفريضة ، ويفعلها في النافلة استعانة ؛ لأنه موضع ترخص . الثالث : يفعلها في الفريضة والنافلة . وهو الصحيح ؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره . قال ابن المنذر : وبه قال مالك وأحمد وإسحاق ، وحكي ذلك عن الشافعي . واستحب ذلك أصحاب الرأي . ورأت جماعة إرسال اليد . وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر{[16497]} والحسن البصري وإبراهيم النخعي .
قلت : وهو مروي أيضا عن مالك . قال ابن عبد البر : إرسال اليدين ، ووضع اليمني على الشمال ، كل ذلك من سنة الصلاة .
الرابعة : واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد ؛ فروى عن علي بن أبي طالب : أنه وضعهما على صدره . وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل : فوق السرة . وقال : لا بأس إن كانت تحت السرة . وقالت طائفة : توضع تحت السرة . وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز . وبه قال سفيان الثوري وإسحاق .
الخامسة : وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والرفع من الركوع والسجود ، فاختلف في ذلك ، فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا سجد . لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبد الوهاب الثقفي . والصواب : من فعل أنس . وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ، حتى تكونا حذو منكبيه ، ثم يكبر ، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع ، ويقول : سمع الله لمن حمده . ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود . قال ابن المنذر : وهذا قول الليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور . وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول . وبه أقوال ؛ لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت طائفة : يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة ، ولا يرفع فيما سوى ذلك . هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
قلت : وهو المشهور من مذهب مالك ؛ لحديث ابن مسعود ، خرجه الدار قطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا محمد بن جابر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة . قال إسحاق : به نأخذ في الصلاة كلها . قال الدارقطني : تفرد به محمد بن جابر- وكان ضعيفا- عن حماد عن إبراهيم . وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبد الله ، من فعله ، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الصواب . وقد روى يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة . قال الدار قطني : وإنما{[16498]} لقن يزيد في آخر عمره : ثم لم يعد ، فتلقنه وكان قد اختلط . وفي مختصر ما ليس في المختصر عن مالك : لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة . قال ابن القاسم : ولم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام ، قال : وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.