ثم قال متعجبا لهم{[265]} { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فإنهم -لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه- لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة التي بين أيديهم ، لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم .
وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا ، لم يرضوا بذلك بل أعرضوا عنه ، فلم يرتضوه أيضا .
قال تعالى : { وَمَا أُولَئِكَ } الذين هذا صنيعهم { بِالْمُؤْمِنِينَ } أي : ليس هذا دأب المؤمنين ، وليسوا حريين بالإيمان . لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم ، وجعلوا أحكام الإيمان تابعة لأهوائهم .
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين }
أي أن أمر هؤلاء اليهود لمن أعجب العجب ، لأنهم يحكمونك - يا محمد - في قضاياهم مع أنهم لم يتبعوا شريعتك ومع أن كتابهم التوراة قد ذرك حكم الله صريحا واضحا فيما يحكمونك فيه .
فالاستفهام في قوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } للتعجب من أحوالهم حيث حكموا من لا يؤمنون به قضية حكمها بين أيديهم ، ظنا منهم أنه سيحكم بينهم بما اتفقوا عليه مما يرضى أهواءهم وشهواتهم .
وقوله : { وَعِنْدَهُمُ التوراة } جملة حالية من الواو ( يحكمونك ) والعامل ما في الاستفهام من التعجيب .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت { فِيهَا حُكْمُ الله } ما موضعه من الإِعراب ؟ قلت : إما أن ينتصب على الحال من التوراة ، وكلمة التوراة ، وكلمة التوارة هي مبتدأ والخبر ( عندهم ) وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله . وإما أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة ، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره .
وقوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } معطوف على ( يحكمونك ) .
وجاء العطف بثم المفيدة للتراخي للإِشارة إلى التفاوت الكبير بين ما في التوراة من حق وبين ما هم عليه من باطل ومخادعة .
وسم الإشارة ( ذلك ) يعود إلى حكم الله الذي في التوراة ، والذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم .
أي : كيف يحكمونك يا محمد في قضاياهم والحال أنهم عندهم التوراة فيها حكم الله واضحاً فيما تحاكموا إليك فيه ، ثم هم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما قضى الله به في كتابهم التوراة .
وقوله : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
ونفي الإِيمان عنهم مع حذف متعلقة لقصد التعميم .
أي : وما أولئك الذين جاءوا يتحاكمون إليك من اليهود بالمؤمنين لا بكتابهم التوراة . لأنهم لو كانوا مؤمنين به لنفذوا أحكامه ، ولا بك يا محمد لأنهم لو كانوا مؤمنين بك استجابوا لك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه .
قال الفخر الرازي : قوله - تعالى - : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } . . إلخ : هذا تعجيب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ، ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكما حقا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة .
فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه :
أحدها : عدولهم عن حكم كتابهم .
والثاني : رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل .
والثالث : إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه . فبين الله حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتريهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ، ومن المحافظين على أمر الله .
وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود - سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد - فقال :
( وكيف يحكمونك - وعندهم التوراة فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ) ؟ . .
فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله [ ص ] فيحكم بشريعة الله وحكم الله ، وعندهم - إلى جانب هذا - التوراة فيها شريعة الله وحكمه ؛ فيتطابق حكم رسول الله [ ص ] وما عندهم في التوراة ؛ مما جاء القرآن مصدقا له ومهيمنا عليه . . ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون . سواء كان التولي بعدم التزام الحكم ؛ أو بعدم الرضى به . .
ولا يكتفي السياق بالاستنكار . ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف :
فما يمكن أن يجتمع الإيمان ، وعدم تحكيم شريعة الله ، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة . والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم " مؤمنون " ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم ، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم . . إنما يزعمون دعوى كاذبة ؛ وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع : ( وما أولئك بالمؤمنين ) . فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب ؛ بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين ، يخرجهم من دائرة الإيمان ، مهما ادعوه باللسان .
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر ، في سورة النساء : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليمًا ) . . فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام . وكلاهما يخرج من الإيمان ، وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله ، ومن يتولى عنه ويرفض قبوله .
ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس . . أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله - وحده - وربوبيته وقوامته على البشر . أو رفض هذا الإقرار . وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته ؛ ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار .
ثم قال تعالى - منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم{[9864]} الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }
{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم ، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم ، و{ فيها حكم الله } حال من التوراة إن رفعتها بالظرف ، وإن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه وتأنيثها لكونها نظيرة المؤنث في كلامهم لفظا كموماة ودوداة . { ثم يتولون من بعد ذلك } ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم ، وهو عطف على يحكمونك داخل في حكم التعجيب . { وما أولئك بالمؤمنين } بكتابهم لإعراضهم عنه أولا وعما يوافقه ثانيا ، أو بك وبه .
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم ، وذلك أنه قال : { وكيف يحكمونك } بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها ؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك ، وقوله تعالى : { من بعد ذلك } أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى ، وقوله تعالى : { وما أولئك بالمؤمنين } يعني بالتوراة وبموسى ، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة . وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } [ المائدة : 41 ] أنه يراد به اليهود .
هذه الجملة عطف على جملة { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعْرض عنهم } [ المائدة : 42 ] . والاستفهام للتعجيب ، ومحلّ العجب مضمون قوله : { ثمّ يتولّون من بعد ذلك } ، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم . فالإشارة بقوله : { من بعد ذلك } إلى الحكم المستفاد من { يُحكّمونك } ، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك . وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين ، كما وصف الله حال المنافقين في قوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] . ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري ، أي هم لا يحكّمونك حقّاً . ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّاً ، أي لا يكون تحكيمهم صَادقاً بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم ، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه ، وهو حكم الله ، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم ، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم ، فما هم بمحكِّمين حقيقة . فيكون فعل { يحكّمونك } مستعملاً في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه ، كقوله تعالى : { يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا } [ التوبة : 64 ] الآية . ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله : { من بعد ذلك } إلى مجموع ما ذكر ، وهو التّحكيم ، وكون التّوراة عندهم ، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة ، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة .
وجملة { وما أولئك بالمؤمنين } في موضع الحال من ضمير الرفع في { يحكّمونك } . ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقاً .
وضمير { فيها } عائد إلى التّوراة ، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتاباً ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة . وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى : { وأنزل التّوراة والإنجيل } في سورة آل عمران ( 3 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله}: الرجم على المحصن والمحصنة، والقصاص في الدماء سواء. {ثم يتولون من بعد ذلك}: يعرضون من بعد البيان في التوراة.
{وما أولئك بالمؤمنين}: وما أولئك بمصدقين حين حرفوا ما في التوراة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وكيف يحكمك هؤلاء اليهود يا محمد بينهم، فيرضون بك حكما بينهم، وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، التي يقرّون بها أنها حقّ وأنها كتابي الذي أنزلته على نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك "يَتَولّوْنَ "يقول: يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة عليّ وعصيانا لي. وهذا وإن كان من الله تعالى ذكره خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريع منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية، يقول لهم تعالى: كيف تقرّون أيها اليهود بحكم نبيي محمد صلى الله عليه وسلم مع جحود نبوّته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرّون به أنه حقّ عليكم واجب جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته. ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه، الزائلين عن محجّة الحق="وما أولئك بالمؤمنين"، يقول: ليس مَن فعل هذا الفعل: أي من تولى عن حكم الله الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه في خلقه بالذي صدّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك ليس من فعل أهل الإيمان. وأصل التولي عن الشيء: الانصراف عنه. عن عبد الله بن كثير: "ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ" قال: توليهم: ما تركوا من كتاب الله.
عن ابن عباس، قوله: "وكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ" يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَكَيفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّورَاةُ فِيهَا حكْمُ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم. والثاني: حكم الله بالقود.
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} فيه قولان: أحدهما: بعد حكم الله في التوراة. والثاني: بعد تحكيمك.
{وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالمُؤمِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: أي في تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك. والثاني: يعني في توليهم عن حكم الله غير راضين به.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله -تعالى -: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) هذا تعجيب للرسول، يعني: كيف يتحاكمون إليك، وفي زعمهم أن عندهم التوراة وهي الحق، وأنك كاذب؟ (ثم يتولون من بعد ذلك): لا يرضون بحكمك. (وما أولئك بالمؤمنين): بمصدقين لك.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيما تحاكموا إليك في حد الزانيين، وأنهم لم يتحاكموا إليك طلباً لحكم الله تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة، وما أولئك بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم لنبوتك.
{وعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْم اللهِ}: يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخاً، وأنه صار بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعة، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم الله. وقد استدل قوم على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وهذا لا وجه له، فإن قوله: فيها حكم الله، ليس يدل على أن كل ما فيها حكم الله، بل قد نسخ بعضها، وإنما يدل على أن فيها حكم الله ونحن نقول بذلك الحكم، وذلك الحكم هو الرجم الذي اختصموا فيه إليه من جهة الزاني.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإِيمان به. {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك}: ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} بكتابهم كما يدّعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبل التهكم بهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: {وكيف يحكمونك} بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: {من بعد ذلك} أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41] أنه يراد به اليهود.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل، عطف عليه قوله معجباً منهم موبخاً لهم: {وكيف يحكمونك} أي في شيء من الأشياء {وعندهم} أي والحال أنه عندهم {التوراة} ثم استأنف قوله: {فيها حكم الله} أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقرراً في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيماً، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيداً عظيماً شديداً، قال: {ثم يتولون} أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية، ولما كان المراد بالحكم الجنس، وكانوا يفعلون بعض أحكامها فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد، أدخل الجار لذلك فقال: {من بعد ذلك} أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعباً.
ولما كان التقدير: فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك، عطف عليه قوله: {وما أولئك} أي البعداء من الله {بالمؤمنين} أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك لآمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا تعجيب من الله لنبيه ببيان حال من أغرب أحوال هؤلاء القوم. وهو أنهم أصحاب شريعة يرغبون عنها ويتحاكمون إلى نبي جاء بشريعة أخرى وهم لم يؤمنوا به. أي وكيف يحكمونك في قضية كقضية الزانيين أو قضية الدية والحال أن عندهم التوراة التي هي شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه، ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته لها؟ أي إذا فكرت في هذا رأيته من عجيب أمرهم، وسببه أنهم ليسوا بالمؤمنين إيمانا صحيحا بالتوراة ولا بك، وإنما هم ممن جاء فيهم {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} [الجاثية:23] فإن المؤمن الصادق بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول، أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك باختلاف أحوال عباده. وهؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها واتباعها لأنه لم يوافق هواهم. وجاءوك يطلبون حكمك رجاء أن يوافق هواهم، ثم يتولون ويعرضون عنه إذا لم يوافق هواهم. فما هم بالمؤمنين بالتوراة ولا بك، ولا بمن أنزل على موسى التوراة وأنزل عليك القرآن، وقد يقولون إنهم مؤمنون وقد يظنون أيضا أنهم مؤمنون، غافلين عن كون الإيمان يقينا في القلب، يتبعه الإذعان بالفعل، ويترجم عنه اللسان بالقول. ولكن اللسان قد يكذب عن علم وعن جهل، فمن أيقن أذعن، ومن أذعن عمل، لأن الإيمان الإذعاني هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، والإرادة هي المصرفة للجوارح في الأعمال.
ومما يجب التنبيه له هنا أن دعاة النصرانية يحتجون بهذه الآية وما في معناها على كون التوراة التي في أيديهم وأيدي اليهود هي ما أنزله تعالى على موسى لم يعرض لها تغيير ولا تحريف. وذلك أنهم كأولئك اليهود الذين يأخذون من القرآن ما يوافق أهواءهم ويردون ما يخالفها جدلا. والمؤمنون يؤمنون بالكتاب كله، فالكتاب بين لنا أن عندهم التوراة أي الشريعة، وأن فيها حكم الله في القضية التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين. وبين لنا أيضا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به وإنما أوتوا نصيبا من الكتاب إذ نسوا نصيبا آخر وأضاعوه. وقد صدق الله تعالى في ذلك أيضا. ولما خرجت أمة القرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب وغيرهم كالبابليين ظهر لهم أن إخبار القرآن بذلك كان من معجزاته الدالة على أنه من عند الله، إذ ظهر لهم أن اليهود قد فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجا بما ليس منها، والتوراة التي في أيديهم تثبت ذلك، كما بيناه في غير هذا الموضع. ومنه تفسير أول سورة آل عمران وتفسير الآية 14 و15 من هذه السورة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود -سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد- فقال:
(وكيف يحكمونك -وعندهم التوراة فيها حكم الله- ثم يتولون من بعد ذلك)؟..
فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بشريعة الله وحكم الله، وعندهم -إلى جانب هذا- التوراة فيها شريعة الله وحكمه؛ فيتطابق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عندهم في التوراة؛ مما جاء القرآن مصدقا له ومهيمنا عليه.. ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون. سواء كان التولي بعدم التزام الحكم؛ أو بعدم الرضى به..
ولا يكتفي السياق بالاستنكار. ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف:
فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم "مؤمنون "ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يزعمون دعوى كاذبة؛ وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: (وما أولئك بالمؤمنين). فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب؛ بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان.
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر، في سورة النساء: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت، ويسلموا تسليمًا).. فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام. وكلاهما يخرج من الإيمان، وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله، ومن يتولى عنه ويرفض قبوله.
ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس.. أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله -وحده- وربوبيته وقوامته على البشر. أو رفض هذا الإقرار. وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة عطف على جملة {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعْرض عنهم} [المائدة: 42]. والاستفهام للتعجيب، ومحلّ العجب مضمون قوله: {ثمّ يتولّون من بعد ذلك}، أي من العجيب أنّهم يتركون كتابهم ويحكّمونك وهم غير مؤمنين بك ثُمّ يتولّون بعد حكمك إذا لم يرضهم. فالإشارة بقوله: {من بعد ذلك} إلى الحكم المستفاد من {يُحكّمونك}، أيّ جمعوا عدم الرضى بشرعهم وبحكمك. وهذه غاية التّعنّت المستوجبة للعجب في كلتا الحالتين، كما وصف الله حال المنافقين في قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين} [النور: 48، 49]. ويحتمل أنّ الاستفهام إنكاري، أي هم لا يحكّمونك حقّاً. ومحلّ الإنكار هو أصل ما يدلّ عليه الفعل من كون فاعله جادّاً، أي لا يكون تحكيمهم صَادقاً بل هو تحكيم صوري يبتغون به ما يوافق أهواءهم، لأنّ لديهم التّوراة فيها حكم مَا حَكَّموك فيه، وهو حكم الله، وقد نبذوها لعدم موافقتها أهواءهم، ولذلك قدّروا نبذ حكومتك إن لم توافق هواهم، فما هم بمحكِّمين حقيقة. فيكون فعل {يحكّمونك} مستعملاً في التظاهر بمعنى الفعل دون وقوعه، كقوله تعالى: {يحْذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا} [التوبة: 64] الآية. ويجوز على هذا أن تكون الإشارة بقوله: {من بعد ذلك} إلى مجموع ما ذكر، وهو التّحكيم، وكون التّوراة عندهم، أي يتولّون عن حكمك في حال ظهور الحجّة الواضحة، وهي موافقة حكومتك لحكم التّوراة.
وجملة {وما أولئك بالمؤمنين} في موضع الحال من ضمير الرفع في {يحكّمونك}. ونفي الإيمان عنهم مع حذف متعلّقه للإشارة إلى أنّهم ما آمنوا بالتّوراة ولا بالإسلام فكيف يكون تحكيمهم صادقاً.
وضمير {فيها} عائد إلى التّوراة، فتأنيثه مراعاة لاسم التّوراة وإن كان مسمّاها كتاباً ولكن لأنّ صيغة فعلاة معروفة في الأسماء المؤنّثة مثل مَومَاة. وتقدّم وجه تسمية كتابهم توراة عند قوله تعالى: {وأنزل التّوراة والإنجيل} في سورة آل عمران (3).