59- يحاول الاختفاء عن أعين الناس ، لئلا يروا كآبته ، من الألم الذي أصابه من وجود المولود الذي أخبروه به ، وتستولي عليه حيرة . أيبقيه حياً مع ما يلحقه من الهوان على ذلك في زعمه ؟ ! أم يدفنه في التراب ، وهو حي حتى يموت تحته ؟ تنبه - أيها السامع - لفظاعة عمل هؤلاء . وقبح حكمهم ، الذي ينسبون فيه لله ما يكرهون أن ينسب إلى أنفسهم .
قوله تعالى : { يتوارى } ، أي : يختفي . { من القوم من سوء ما بشر به } ، من الحزن والعار ، ثم يتفكر : { أيمسكه } ، ذكر الكناية رداً على " ما " ، { على هون } ، أي : هوان ، { أم يدسه في التراب } ، أي : يخفيه منه ، فيئده . وذلك : أن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياء ، وخوفاً من الفقر عليهم ، وطمع غير الأكفاء فيهن ، وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها : ألبسها جبةً من صوف أو شعر ، وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإذا أراد أن يقتلها : تركها حتى إذا صارت سداسية ، قال لأمها : زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئراً في الصحراء ، فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذه البئر ، فيدفعها من خلفها في البئر ، ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، فذلك قوله عز وجل : { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } . وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يحييها بذلك ، فقال الفرزدق يفتخر به :
وعمي الذي منع الوائدات *** فأحيا الوئيد فلم يوأد
{ ألا ساء ما يحكمون } ، بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين ، نظيره : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } [ النجم – 22 ] ، وقيل : بئس حكمهم وأد البنات .
وحتى إنه يفتضح عند أبناء جنسه ، ويتوارى منهم ، من سوء ما بشر به . ثم يعمل فكره ورأيه الفاسد ، فيما يصنع بتلك البنت التي بشّر بها ، { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } ، أي : يتركها من غير قتل على إهانة وذل ، { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } ، أي : يدفنها وهي حية ، وهو الوأد الذي ذم الله به المشركين ، { أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، إذ وصفوا الله بما لا يليق بجلاله ، من نسبة الولد إليه .
ثم لم يكفهم هذا ، حتى نسبوا له أردأ القسمين ، وهو الإناث اللاتي يأنفون بأنفسهم عنها ويكرهونها ، فكيف ينسبونها لله تعالى ؟ ! فبئس الحكم حكمهم .
ثم صور - سبحانه - حالتهم عندما يبشرون بولادة الأنثى ، وحكى عاداتهم الجاهلية المنكرة ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ . . } .
قال الآلوسى : " قوله { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى . . } ، أي : أخبر بولادتها . وأصل البشارة الإِخبار بما يسر . لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم ، حملت على مطلق الإِخبار . وجوز أن يكون ذلك بشارة ، باعتبار الولادة ، بقطع النظر عن كونها أنثى . . " .
وقوله : { كظيم } ، من الكظم ، بمعنى الحبس . يقال : كظم فلان غيظه ، إذا حبسه ، وهو ممتلئ به ، وفعله من باب ضر .
والمعنى : وإذا أخبر أحد هؤلاء الذين يجعلون لله البنات ، بولادة الأنثى دون الذكر ، صار وجهه مسودا كئيبا كأن عليه غبرة ، ترهقه قترة - أي تعلوه ظلمه وسواد - ، وصار جسده ممتلئا بالحزن المكتوم ، والغيظ المحبوس ، وأصبح يتوارى ، ويتخفى عن أعين الناس ، خجلا وحياء ، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ، ولم تلد له ذكرا .
وقوله - سبحانه - : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } ، تصوير بليغ لموقف ذلك المشرك مما بشر به ، وهو ولادة الأنثى .
فالضمير المنصوب في قوله : " أيمسكه ، ويدسه " ، يعود على المبشر به ، وهو الأنثى .
ويدسه : من الدس ، بمعنى : الإِخفاء للشيء في غيره . والمراد به . دفن الأنثى حية في التراب حتى تموت ، وهو المشار إليه في قوله - تعالى - : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } أي : أن هذا المشرك بعد أن يبشر بولادة الأنثى ، يدور بذهنه أحد أمرين : إما أن يمسكها ويبقيها على هوان وذل ، وإما أن يدسها ويخفيها في التراب ، بأن يدفنها فيه وهي حية ، حتى تموت .
والجار والمجرور في قوله : { على هون } ، يصح أن يكون حالا من الفاعل ، وهو المشرك : أي : أيمسك المبشر به مع رضاه - أي المشرك - بهوان نفسه وذلتها بسبب هذا الإِمساك .
ويصح أن يكون حالا من المفعول ، وهو الضمير المنصوب . أي أيمسك هذه الأنثى ويبقيها بقاء ذلة وهوان لها ، بحيث لا يورثها شيئا من ماله ، ولا يعاملها معاملة حسنة .
ومن بلاغة القرآن أنه عبر بقوله ؛ { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، ليشمل حالة المشرك ، وحالة المبشر به وهو الأنثى .
وقوله - تعالى - : { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، ذم لهم على صنيعهم السيئ ، وعلى جهلهم الفاضح .
أي : بئس الحكم حكمهم ، وبئس الفعل فعلهم ، حيث نسبوا البنات إلى الله - تعالى - ، وظلموهن ظلما شنيعا ، حيث كرهوا وجودهن ، وأقدموا على قتلهن بدون ذنب أو ما يشبه الذنب .
وصدر - سبحانه - هذا الحكم العادل عليهم بحرف " ألا " الاستفتاحية : لتأكيد هذا الحكم ، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه ، إنما هو جور عظيم ، قد تمالئوا عليه ، بسبب جهلهم الفاضح ، وتفكيرهم السيئ .
أسند - سبحانه - الحكم إلى جميعهم ، مع أن من فعل ذلك كان بعضا منهم ، لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح ، هذا الترك هو في ذاته جريمة ، يستحق عليها جميع العقوبة ، لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه ، يعتبر رضا به .
والأنثى هبة الله له كالذكر ، وما يملك أن يصور في الرحم أنثى ولا ذكرا ، وما يملك أن ينفخ فيه حياة ، وما يملك أن يجعل من النطفة الساذجة إنسانا سويا . وإن مجرد تصور الحياة نامية متطورة من نطفة إلى بشر - بإذن الله - ليكفي لاستقبال المولود - أيا كان جنسه - بالفرح والترحيب وحسن الاستقبال ، لمعجزة الله التي تتكرر ، فلا يبلى جدتها التكرار ! فكيف يغتم من يبشر بالأنثى ويتواري من القوم من سوء ما بشر به وهو لم يخلق ولم يصور . إنما كان أداة القدرة في حدوث المعجزة الباهرة ؟ .
وحكمة الله ، وقاعدة الحياة ، اقتضت أن تنشأ الحياة من زوجين ذكر وأنثى . فالأنثى أصيلة في نظام الحياة أصالة الذكر ؛ بل ربما كانت أشد أصالة لأنها المستقر . فكيف يغتم من يبشر بالأنثى ، وكيف يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ونظام الحياة لا يقوم إلا على وجود الزوجين دائما ؟ .
إنه انحراف العقيدة ينشيء آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده . . ( ألا ساء ما يحكمون ) وما أسوأه من حكم وتقدير .
وهكذا تبدو قيمة العقيدة الإسلامية في تصحيح التصورات والأوضاع الاجتماعية . وتتجلى النظرة الكريمة القويمة التي بثها في النفوس والمجتمعات تجاه المرأة ، بل تجاه الإنسان . فما كانت المرأة هي المغبونة وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني إنما كانت " الإنسانية " في أخص معانيها . فالأنثى نفس إنسانية ، إهانتها إهانة للعنصر الإنساني الكريم ، ووأدها قتل للنفس البشرية ، وإهدار لشطر الحياة ؛ ومصادمة لحكمة الخلق الأصيلة ، التي اقتضت أن يكون الأحياء جميعا - لا الإنسان وحده - من ذكر وأنثى .
وكلما انحرفت المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها . . وفي كثير من المجتمعات اليوم تعود تلك التصورات إلى الظهور . فالأنثى لا يرحب بمولدها كثير من الأوساط وكثير من الناس ، ولا تعامل معاملة الذكر من العناية والاحترام . وهذه وثنية جاهلية في إحدى صورها ، نشأت من الانحراف الذي أصاب العقيدة الإسلامية .
ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية - في مسألة المرأة - ، نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون أنفسهم وأن يراجعوا نظرة الإسلام ، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع . وفي المشاعر والضمائر . وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية . إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن الله الذي كرم الإنسان ، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى ، ووصفها بأنها شطر النفس البشرية ، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله .
{ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ } ، أي : يكره أن يراه الناس ، { مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } ، أي : إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ، ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها ، { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } ، أي : يئدها : وهو : أن يدفنها فيه حية ، كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ، ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ { أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، أي : بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوا إليه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [ الزخرف : 17 ] ،
{ يتوارى من القوم } ، يستخفي منهم . { من سوء ما بُشّر به } ، من سوء المبشر به عرفا . { أيُمسكه } ، محدثا نفسه ، متفكرا في أن يتركه . { على هون } ، ذل ، { أم يدُسّه في التراب } ، أي : يخفيه فيه ويئده ، وتذكير الضمير للفظ { ما } ، وقرئ بالتأنيث فيهما . { ألا ساء ما يحكمون } ، حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم .
وقوله : { يتوارى من القوم } الآية ، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى ، إنما هو بعد البشارة بالأنثى ، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق ، توارى حتى يخبر بأحد الأمرين ، فليس المراد في الآية ، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج ، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ، ولم يحتج إلى إحداثه ، ومعنى : { يتوارى } ، يتغيب ، وتقدير الكلام : يتوارى من القوم مدبراً ، { أيمسكه أم يدسه } ؟ وقرأت فرقة «أيمسكه » ، على لفظ «ما أم يدسها » ، على معنى الأنثى ، وقرأ الجحدري «أيمسكها أم يدسها » ، على معنى الأنثى في الموضعين ، وقرأ الجمهور «على هُون » بضم الهاء ، وقرأ عيسى بن عمر «على هوان » ، وهي قراءة عاصم الجحدري ، وقرأ الأعمش «على سوء » ، ومعنى الآية : يدبر ؛ أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له ، أم يدسها فيدفنها حية ، فهو الدس في التراب .
ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ، ورزق الجميع على الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يتوارى من القوم من سوء ما بشر به}، يعني: لا يريد أن يسمع تلك البشرى أحدا، ثم أخبر عن صنيعه بولده، فقال سبحانه: {أيمسكه على هون}، فأما الله فقد علم أنه صانع أحدهما لا محالة، {أم يدسه}، وهي حية، {في التراب ألا ساء ما يحكمون}، يعني: ألا بئس ما يقضون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يتوارى هذا المبشّر بولادة الأنثى من الولد له من القوم، فيغيب عن أبصارهم مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ، يعني: من مساءته إياه، مميلاً بين أن يمسكه على هُون: أي على هوان...
"أمْ يَدسّهُ فِي التّرَابِ" يقول: يدفنه حيّا في التراب فيئده...
وقوله: "ألا ساءَ ما يَحْكُمُونَ" يقول: ألا ساء الحكم الذي يحكم هؤلاء المشركون، وذلك أن جعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم، وجعلوا لما لا ينفعهم ولا يضرّهم شركا فيما رزقهم الله، وعبدوا من خلقهم وأنعم عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أيمسكه على هوان؛ يضر به... و يسيئ صحبته...
{أم يدسه في التراب}، وهو حي... وهي الموءودة التي قال الله تعالى: {إذا الموءودة سئلت} (التكوير: 8)،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى: {يتوارى}، أي: يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء، لا اطلاع لأحد عليه، {من القوم}، أي: الرجال الذين هو فيهم. {من سوء ما بشر به}، لعده له خزياً. ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك، بقوله تعالى: {أيمسكه على هون}، أي: ذل وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس، فقال تعالى: {أم يدسه في التراب}...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
وكانوا يفعلون ذلك خوفًا من نكاح غير الأكفاء "والزنى، والسرقة، وعيب من العيوب، وعدم جمالها، وللفقر... وكم امرأة خير لأهلها من غلام، وقضاء الله للمرء خير من قضائه لنفسه، أخبرنا الله بذلك لنجتنبه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والأنثى هبة الله له كالذكر، وما يملك أن يصور في الرحم أنثى ولا ذكرا، وما يملك أن ينفخ فيه حياة، وما يملك أن يجعل من النطفة الساذجة إنسانا سويا. وإن مجرد تصور الحياة نامية متطورة من نطفة إلى بشر -بإذن الله- ليكفي لاستقبال المولود -أيا كان جنسه- بالفرح والترحيب وحسن الاستقبال، لمعجزة الله التي تتكرر، فلا يبلى جدتها التكرار! فكيف يغتم من يبشر بالأنثى ويتوارى من القوم من سوء ما بشر به وهو لم يخلق ولم يصور. إنما كان أداة القدرة في حدوث المعجزة الباهرة؟...
وحكمة الله، وقاعدة الحياة، اقتضت أن تنشأ الحياة من زوجين ذكر وأنثى. فالأنثى أصيلة في نظام الحياة أصالة الذكر؛ بل ربما كانت أشد أصالة لأنها المستقر. فكيف يغتم من يبشر بالأنثى، وكيف يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ونظام الحياة لا يقوم إلا على وجود الزوجين دائما؟...
إنه انحراف العقيدة ينشئ آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده.. (ألا ساء ما يحكمون) وما أسوأه من حكم وتقدير. وهكذا تبدو قيمة العقيدة الإسلامية في تصحيح التصورات والأوضاع الاجتماعية. وتتجلى النظرة الكريمة القويمة التي بثها في النفوس والمجتمعات تجاه المرأة، بل تجاه الإنسان. فما كانت المرأة هي المغبونة وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني إنما كانت "الإنسانية "في أخص معانيها. فالأنثى نفس إنسانية، إهانتها إهانة للعنصر الإنساني الكريم، ووأدها قتل للنفس البشرية، وإهدار لشطر الحياة؛ ومصادمة لحكمة الخلق الأصيلة، التي اقتضت أن يكون الأحياء جميعا -لا الإنسان وحده- من ذكر وأنثى. وكلما انحرفت المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها.. وفي كثير من المجتمعات اليوم تعود تلك التصورات إلى الظهور. فالأنثى لا يرحب بمولدها كثير من الأوساط وكثير من الناس، ولا تعامل معاملة الذكر من العناية والاحترام. وهذه وثنية جاهلية في إحدى صورها، نشأت من الانحراف الذي أصاب العقيدة الإسلامية...
ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية -في مسألة المرأة -، نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون أنفسهم وأن يراجعوا نظرة الإسلام، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع. وفي المشاعر والضمائر. وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية. إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن الله الذي كرم الإنسان، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى، ووصفها بأنها شطر النفس البشرية، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التّواري: الاختفاء، مضارع واراه، مشتقّ من الوراء وهو جهة الخلف.
و {مِن} في قوله تعالى: {من سوء ما بشر به} للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل، لأنه يقال: فعلت كذا من أجل كذا، قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [سورة الأنعام: 151]، أي يتوارى من أجل تلك البشارة.
وجملة {أيمسكه} بدل اشتمال من جملة {يتوارى}، لأنه يتوارى حياء من الناس؛ فيبقى متوارياً من قومه أياماً حتى تُنسى قضيّته. وهو معنى قوله تعالى: {أيمسكه} الخ، أي يتوارى ويتردّد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه: أأمسكه على هُون أم أدسّه في التراب.
والمراد: التردّد في جواب هذا الاستفهام.
والهُون: الذلّ. وتقدم عند قوله تعالى: {فاليوم تجزون عذاب الهون} في سورة الأنعام (93).
والدسّ: إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن. والمراد: الدّفن في الأرض وهو الوأد. وكانوا يَئِدون بناتهم، بعضُهم يئد بحدثان الولادة، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ومشت وتكلّمت، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها. وذلك من أفظع أعمال الجاهلية، وكانوا متمالئين عليه ويحسبونه حقّاً للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل.
ولذلك سمّاه الله حكماً بقوله تعالى: {ألا ساء ما يحكمون}. وأعلن ذمّهُ بحَرف {ألاَ} لأنه جور عظيم قد تَمَالأُوا عليه وخوّلوه للناس ظلماً للمخلوقات، فأسند الحكم إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جارياً على فعل واحد غير معيّن قضاءً لحقّ هذه النكتة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وعبر سبحانه ب {يدسه}، بدل يدفن، لأن الدفن يكون للميت، وهذه على قيد الحياة وهي الموءودة،... وإن امتهان المرأة ذلك الامتهان لم يكن عند العرب وحدهم، بل كان عند الفرس، وكان عند الرومان، ولم يكن في القانون الروماني أي حماية للمرأة، بل كانت تعد المرأة أمة في بيت أبيها، لو قتلها لا يسأل لم قتلها، وإذا انتقلت إلى بيت زوجها كانت أمة أيضا، ولو قتلها لا دية لها، ولا ملام، وقال تعالى: {ألا ساء ما يحكمون} ألا للتنبيه وساء في فعل التعجب فالمعنى ما أسوأ ما يحكمون لأنه سخط وظلم وفساد في التفكير. ولما جاء القرآن كرمها وجعل لهن من الحقوق مثل الذي عليهن من الواجبات، وواجب تأديبها وتعليمها...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 56]
واستعرض كتاب الله صورا من معتقدات المشركين وآرائهم السخيفة، في معرض النقض والإبطال، وفي طليعة هذه المعتقدات الباطلة، ما كان المشركون يخصصونه للأصنام والأوثان، من أنعام لا يركبونها ولا يذوقون لحومها، ومن عطايا ونذور لا يقتطعون منها شيئا، وما كانوا ينسبون لمقام الألوهية من اختيار البنات، وهي الملائكة في نظرهم. واستنكر كتاب الله سخافة عقولهم، وسماجة عوائدهم، التي كانت تقضي باحتقار الأنثى والتشاؤم بها، مستغربا كيف أنهم تجرأوا على أن يختاروا لله في زعمهم ما يكرهونه لأنفسهم... وهذه إشارة إلى ما كان يقدم عليه بعض المشركين من وأد البنات وهن أحياء، وما كان يقوم به البعض الآخر من إبقائهن أحياء، لكن في حالة من الضعة والهوان، وفي هذا الموضوع نفسه، ورد في مكان آخر من هذا الربع، قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى، لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون}، وقوله تعالى: تنزيها للحق سبحانه عن كل ذلك: {ولله المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم}...
ثم عقب كتاب الله منددا بهذه النظرة الجاهلية السخيفة، هادما لها من الأساس، معيدا بذلك للأنثى كرامتها الأصيلة، معترفا لها بحقها الثابت في الحياة العزيزة الكريمة مثل شقيقها الذكر، فقال تعالى ناقضا لحكم الجاهلية في شأن الأنثى، ومنددا بموقف المشركين منها: {ألا ساء ما يحكمون}...