السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (59)

{ يتوارى } ، أي : يستحي ، { من القوم } ، أي : من الرجال الذين هو فيهم ، { من سوء ما بشر به } ، خوفاً من التعيير ؛ وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم ، توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له ، فإن ولد له ذكر ، ابتهج وسرّ بذلك وظهر ، وإن كانت أنثى ، حزن ولم يظهر أياماً متردّداً ماذا يفعل بذلك الولد ، { أيمسكه } ، أي : يتركه بغير قتل ، { على هون } ، هوان وذل ، { أم يدسه في التراب } ، وذكر الضمير في " يمسكه ويدسه " نظراً للفظ الولد ، أو لكون الأنثى ولداً كما علم مما مرّ . قال ابن ميلق : قال المفسرون : كانت المرأة إذا أدركها المخاض ، احتفرت حفرة وجلست على شفيرها ، فإن وضعت ذكراً أظهرته ، وظهر السرور على أهله ، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها ، فإن شاء أمسكها على هون ، وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة ، وردّت التراب عليها وهي حية لتموت ، انتهى . وعن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله ، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية . فقال له صلى الله عليه وسلم : «أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة . فقال : يا نبيّ الله إني ذو إبل . قال : اهد عن كل واحدة منهن هدياً » . وروي أنّ رجلاً قال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها ، فقالت : يا أبت قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء . فقال صلى الله عليه وسلم «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام ، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار » ، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفاً من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء ، وتارة خوفاً من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة . وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته ، تركها حتى تكبر ، ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ، ويجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية . قال الله تعالى : { ألا ساء } ، أي : بئس ، { ما يحكمون } ، حكمهم هذا وذلك ، لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها : أنه يسود وجهه ، وثانيها : أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت . وثالثها : أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة ، ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها ، وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها ، قد بلغ مبلغاً لا يزاد عليه ، فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى 21 تلك إذاً قسمة ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] .