اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (59)

قوله : { يتوارى } ، يحتمل أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه ، إلا " وجْههُ " ، فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في : " كَظِيمٌ " .

قوله { مِنَ القوم مِن سوء } ، تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما ، فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلَّة ، أي : من أجل سوء ما بشِّر به .

قوله : " أيُمْسِكهُ " ، قال أبو البقاء : " في موضع الحال ، تقديره : يتوارى ، أي : مُتردِّداً ، هل يمسكه أم لا ؟ " .

وهذا خطأٌ عند النحويين ؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال ، لا تقع جملة طلبيَّة ، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل " يَتوارَى " ، ليتم الكلام ، أي : يتوارى ناظراً ، أو متفكِّراً : " أيُمسِكهُ على هُونٍ . . . أمْ يدُسُّه " على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " مَا " .

وقرأ الجحدريُّ{[19901]} : أيُمْسِكُها أم يدسُّها ، مراعاة للأنثى ، أو لمعنى " مَا " .

وقرئ{[19902]} : أيمسكهُ أم يدسُّها ، والجحدري ، وعيسى - رحمهما الله - على " هَوان " ، بزنة " فدان " ، وفرقة على " هَوْنٍ " وهي قلقة ؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ واللينُ ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا الهوان فمعنى " هُونٍ " المضموم .

قوله : { على هُونٍ } ، فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه{[19903]} مع [ رضاه ] بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه .

والثاني : أنه حالٌ من المفعول ، أي : يمسكها ذليلة مهانة .

والدَّس : إخفاء الشيء ، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ .

فصل

معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم ، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا وحزناً ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه ، انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد ، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار ، وإذا قوي غمُّ الإنسان ، احتقن الروحُ في داخل القلب ، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرُّ الوجه ويسودُّ ويظهر فيه أثر الأرضية والكآبة ؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } ، أي : ممتلئ غمًّا ، " يتوارى " به من القوم : يتنحى عنهم ويتغيَّب ، من سوء ما بشِّر .

قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته ، توارى واختفى عن القوم ، إلى أن يعلم ما يولد له ؛ فإن كان ذكراً ابتهج به ، وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياماً ، يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، أي : أيحتبسه ؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، والهُونُ : الهَوان .

قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً ، وهَواناً ، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً ، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { عَذَابَ الهون } [ الأنعام : 93 ] .

{ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } ، والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ .

قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : " إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة ، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة " ، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً " {[19904]} .

وروي " أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة ، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها ، فأخْرَجتْهَا إليّ ، فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي ، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم " مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ " {[19905]} .

واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميَّة ، وتارة خوفاً من الفقر ، والفاقة ، ولزومِ النَّفقةِ .

وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك ، فقال الفرزدق مفتخراً به : [ المتقارب ]

وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ *** وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ{[19906]}

{ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات .

أولها : أنه يُسوِّدُّ وجهه .

ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم ، من شدَّة نفرته عنها .

وثالثها : يقدم على قتلها ، مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع ، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه ، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم ، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟ .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] .

فصل

قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ ، فأحْسنَ إليْهِنَّ ، كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ " {[19907]} .

وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا ، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن ، وضمَّ أصَابعهُ " أخرجهما مسلم{[19908]} .

فصل

قال القاضي : " دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر ؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ والفواحش ، ما إذا أضيف إلى أحدهم ، أجهد نفسه في البراءة منه ، والتَّباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين ، بل أعظم ؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - " .

وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله ، أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ، ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه ، وعبيده ، وبالغ في تحسين صورهم ، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق ، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف ، إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .

وأمَّا أفعال العباد ، فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى ، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر .


[19901]:القرطبي 10/78، والبحر 5/488، والدر المصون 4/339.
[19902]:ينظر: السابق نفسه.
[19903]:في أ: رجاءه.
[19904]:أخرجه البيهقي (8/116) والطبري في "الكبير" (18/338) والبزار (2280 ـ كشف). وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/137) وقال: رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح غير حسين بن مهدي الأيلي وهو ثقة.
[19905]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/ 45 ـ 46).
[19906]:ينظر: الديوان 1/173، القرطبي 10/78، البغوي 4/97، مجاز القرآن 2/287، الخازن 4/97، الكشاف 2/102، أمالي المرتضى 2/282، اللسان (وأد) الإصابة 3/186.
[19907]:أخرجه البخاري 10/440 ، كتاب الأدب: باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5995) ومسلم 4/2027 ، كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل الإحسان إلى البنات (147 ـ 2629).
[19908]:أخرجه مسلم في 4/2028، كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل الإحسان إلى البنات 149 ـ 2631، والترمذي 4/281، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات 1914.