قوله : { يتوارى } ، يحتمل أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه ، إلا " وجْههُ " ، فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في : " كَظِيمٌ " .
قوله { مِنَ القوم مِن سوء } ، تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما ، فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلَّة ، أي : من أجل سوء ما بشِّر به .
قوله : " أيُمْسِكهُ " ، قال أبو البقاء : " في موضع الحال ، تقديره : يتوارى ، أي : مُتردِّداً ، هل يمسكه أم لا ؟ " .
وهذا خطأٌ عند النحويين ؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال ، لا تقع جملة طلبيَّة ، و الذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل " يَتوارَى " ، ليتم الكلام ، أي : يتوارى ناظراً ، أو متفكِّراً : " أيُمسِكهُ على هُونٍ . . . أمْ يدُسُّه " على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " مَا " .
وقرأ الجحدريُّ{[19901]} : أيُمْسِكُها أم يدسُّها ، مراعاة للأنثى ، أو لمعنى " مَا " .
وقرئ{[19902]} : أيمسكهُ أم يدسُّها ، والجحدري ، وعيسى - رحمهما الله - على " هَوان " ، بزنة " فدان " ، وفرقة على " هَوْنٍ " وهي قلقة ؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء : الرِّفقُ واللينُ ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا الهوان فمعنى " هُونٍ " المضموم .
قوله : { على هُونٍ } ، فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإنه قال : أيمسكه{[19903]} مع [ رضاه ] بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه .
والثاني : أنه حالٌ من المفعول ، أي : يمسكها ذليلة مهانة .
والدَّس : إخفاء الشيء ، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ .
معنى الآية : أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم ، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه غمًّا وحزناً ، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه ، انشرح صدره ، وانبسط روح قلبه من داخل البدن ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد ، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار ، وإذا قوي غمُّ الإنسان ، احتقن الروحُ في داخل القلب ، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه ، فلا جرم يصفرُّ الوجه ويسودُّ ويظهر فيه أثر الأرضية والكآبة ؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه ، وإشراقه ، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه ، وغبرته ، وسواده ، فلهذا قال : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } ، أي : ممتلئ غمًّا ، " يتوارى " به من القوم : يتنحى عنهم ويتغيَّب ، من سوء ما بشِّر .
قال المفسِّرون : كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته ، توارى واختفى عن القوم ، إلى أن يعلم ما يولد له ؛ فإن كان ذكراً ابتهج به ، وإن كان أنثى حزن ، ولم يظهر أياماً ، يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، أي : أيحتبسه ؟ والإمساك هنا : الحبس ، كقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، والهُونُ : الهَوان .
قال النضر بن شميلٍ : يقال : إنه أهون عليه هوناً ، وهَواناً ، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً ، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { عَذَابَ الهون } [ الأنعام : 93 ] .
{ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } ، والدَّسُ : إخفاءُ الشيء في الشيء ، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن ، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ .
قال قيس بن عاصم : يا رسول الله : " إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة ، فقال - صلوات الله وسلامه عليه- : أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة " ، فقال : يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً " {[19904]} .
وروي " أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة ، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها ، فأخْرَجتْهَا إليّ ، فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ ، فقالت : يا أبَتِ قَتَلتَنِي ، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم " مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ " {[19905]} .
واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات ، فمنهم من يذبحها ، ومنهم من يحفر الحفيرة ، ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ ، ومنهم من يغرقها ، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة ، وتارة للحميَّة ، وتارة خوفاً من الفقر ، والفاقة ، ولزومِ النَّفقةِ .
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك ، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك ، فقال الفرزدق مفتخراً به : [ المتقارب ]
وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ *** وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ{[19906]}
{ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات .
ثانيها : أنَّه يختفي عن القوم ، من شدَّة نفرته عنها .
وثالثها : يقدم على قتلها ، مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع ، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه ، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم ، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟ .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] .
قال القرطبيُّ : ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ ، فأحْسنَ إليْهِنَّ ، كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ " {[19907]} .
وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا ، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن ، وضمَّ أصَابعهُ " أخرجهما مسلم{[19908]} .
قال القاضي : " دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر ؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ والفواحش ، ما إذا أضيف إلى أحدهم ، أجهد نفسه في البراءة منه ، والتَّباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين ، بل أعظم ؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى - " .
وجوابه : لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله ، أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ، ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه ، وعبيده ، وبالغ في تحسين صورهم ، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق ، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف ، إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .
وأمَّا أفعال العباد ، فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى ، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.