التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ} (59)

قوله : ( يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به ) ، كهذا الذي جاءه الإخبار بولادة الأنثى ، ( يتوارى من القوم ) ، أي : يختفي منهم ويستتر ، ( من سوء ما بشر به ) ، أي : من شديد ما أصابه ، من الغم والغيظ والإحساس بالعار من ولادة الأنثى .

قوله : ( أيمسكه على هون ) ، يمسكه من الإمساك ، وهو الحبس . والهون ، معناه الهوان أو المهانة . تهاون به ، أي : استحقره{[2547]} ، والضمير في ( أيمسكه ) ، يرجع إلى البنت ؛ أي : أيمسك هذه المولودة ، على رغم أنفه وإحساسه بهوان نفسه ؟ ! ( أم يدسه في التراب ) ، والدس معناه الإخفاء والدفن{[2548]} ؛ فالمولود له متردد بين إمساك الأنثى المولودة على إحساس منه بالمهانة والعار في نفسه بسبب ولادتها . أو دفنها حية في التراب . وذلك هو الوأد . وهو الفعلة المشؤومة النكراء ، الفعلة الشنيعة الفظيعة ، التي كانت العرب تفعلها في جاهليتهم الأولى . الجاهلية السخيفة العمياء ، التي تسوّل للإنسان عبادة الأحجار الصم ، ووأد ابنته حية في الثرى ، وذلك في غاية القسوة والفظاعة وكزازة القلب والطبع .

فإنه يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ، ويجعلونها فيها حتى تموت .

وروي عن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية ، فقال عليه السلام : " أعتق عن كل واحدة منهم رقبة " . وروي أن رجلا قال : يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ؛ فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها إلي ، فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه . فقالت : يا أبت قتلتني . فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء . فقال عليه الصلاة والسلام : " ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام . وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار " .

على أن العرب كانوا يقتلون البنات على صور مختلفة ؛ فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها . وقد كانوا يفعلون ذلك ، تارة للغيرة والحمية ، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة{[2549]} . لا جرم أن أسبابا ومعاذير كهذه ، لهي غاية في الباطل والنكر ، وغاية في الطغيان والجور وكزازة القلب . إن هذا الاجتراء المتفحش الأثيم على قتل البنات لكونهن إناثا ، قد ندد به الإسلام غاية التنديد ، وشدّد عليه التفظيع والنكير ؛ بل إن الإسلام قد أوجب للأنثى من ظواهر التكريم والكلاءة والصون ، ما ليس له في شرائع الأرض نظير .

لقد فرض الإسلام للأنثى من بالغ العناية والرعاية والاهتمام ما أحاطها بظلال من التقدير والرحمة . وأيما إهانة للأنثى أو انتقاص لها أو حيف يصيبها من الرجل ؛ فهو في دين الإسلام إثم غليظ ومخالفة عن أمر الله . ولقد حرض الإسلام على تكريم الإناث في كل مناحي الحياة ، لتكون على الدوام آمنة مبجلة مطمئنة . ومن جملة ذلك : ما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( ص ) قال : " من كان له ثلاث بنات ، أو ثلاث أخوات ، أو بنتان ، أو أختان ، فأحسن صحبتهن ، واتقى الله فيهن ؛ فله الجنة " . وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي ( ص ) قال : " من كانت له أنثى ، فلم يئدها ، ولم يهنها ، ولم يؤثر ولده عليها ؛ أدخله الله الجنة " . وأخرج الشيخان أن النبي ( ص ) قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ، واستوصوا بالنساء خيرا " .

وعن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ( ص ) : " من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها ، وعلمها فأحسن تعليمها ، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه ، كانت له سترا أو حجابا من النار " .

والنساء شق البشرية الآخر ، المكمل للشق الأول وهو شق الرجال . وكلا الشقين يكمل أحدهما الآخر ، ليكونا مؤتلفين منسجمين في حياتهما الدنيا . وفي هذا يقول الرسول ( ص ) : فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي : " إنما النساء شقائق الرجال " .

وخير شاهد على حقيقة المساواة في التكريم بين المؤمنين والمؤمنات قوله تعالى : ( إن المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، والقانتين والقانتات ، والصادقين والصادقات ، والصابرين والصابرات ، والخاشعين والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات ، والصائمين والصائمات ، والحافظين فروجهم والحافظات ، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) .

قوله : ( ألا ساء ما يحكمون ) ، أي : بئس ما قالوا وما فعلوا ، وساء ما ظنوا وما صنعوا ، من فظائع الوأد ونسبة الإناث إلى الله ، وهم أنفسهم يكرهون البنات وينفرون منهم ، وينسبون الذكور لأنفسهم . وكذلك اغتمامهم واكتئابهم ، واسوداد وجوههم عند التبشير بالأنثى ، ساء ذلك كله .


[2547]:- مختار الصحاح ص 702
[2548]:- المصباح المنير ج،1 ص 207
[2549]:- تفسير الرازي جـ20 ص 56، 57 وفتح القدير جـ 3 ص 170 وتفسير القرطبي جـ 10 ص 116، 117.