قال تعالى رادا عليهم في ذلك { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ .
{ هُوَ مَوْلَانَا } أي : متولي أمورنا الدينية والدنيوية ، فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من الأمر شيء .
{ وَعَلَى اللَّهِ } وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم ، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم ، فلا خاب من توكل عليه ، وأما من توكل على غيره ، فإنه مخذول غير مدرك لما أمل .
وقوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا . . } إرشاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذي يكبتهم ويزيل فرحتهم .
أى : " قل " يا محمد - لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصبك من شر ، ويحزنهم ما يصيبك من خير ، والذين خلت قلوبهم من الإِمان بقضاء الله وقدره ، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت . لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا " هو مولانا " الذي يتولانا في كل أمورنا ، ونلجأ إليه في كل أحوالنا . وعليه وحده - سبحانه نكل أمورنا وليس على أحد سواه .
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور ، ويحسبون البلاء شراً في كل حال ، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود . وقد خلت قلوبهم من التسليم للّه ، والرضى بقدره ، واعتقاد الخير فيه . والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى ، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة اللّه ، وأن اللّه ناصر له ومعين :
( قل : لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون ) . .
واللّه قد كتب للمؤمنين النصر ، ووعدهم به في النهاية ، فمهما يصبهم من شدة ، ومهما يلاقوا من ابتلاء ، فهو إعداد للنصر الموعود ، ليناله المؤمنون عن بينة ، وبعد تمحيص ، وبوسائله التي اقتضتها سنة اللّه ، نصراً عزيزاً لا رخيصاً ، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء ، صابرة على كل تضحية . واللّه هو الناصر وهو المعين :
( وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون ) . .
والاعتقاد بقدر اللّه ، والتوكل الكامل على اللّه ، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق . فذلك أمر اللّه الصريح :
فأرشد الله تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال : { قُلْ } أي : لهم { لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : نحن تحت مشيئة الله ، وقدره ، { هُوَ مَوْلانَا } أي : سيدنا وملجؤنا { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّن يُصِيبَنَآ إِلاّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره مؤدّبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك : لَنْ يُصِيبَنا أيها المرتابون في دينهم إلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا في اللوح المحفوظ وقضاه علينا . هُوَ مَوْلانا يقول : هو ناصرنا على أعدائه . وَعلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ يقول : وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، فإنهم إن يتوكلوا عليه ولم يرجوا النصر من عند غيره ولم يخافوا شيئا غيره ، يكفهم أمورهم وينصرهم على من بغاهم وكادهم .
{ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة ، أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم . وقرئ " هل يصيبنا " و " هل يصيبنا " وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به . وقيل من الصواب . { هو مولانا } ناصرنا ومتولي أمورنا . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره .
تلقين جواب لقولهم : { قد أخذنا أمرنا من قبل } [ التوبة : 50 ] المنبئ عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك ، فهو نفع محض كما تدلّ عليه تعدية فعل { كتب } باللام المؤذنة بأنّه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا الجواب هو أن العدوّ يفرح بمصاب عدوّه لأنّه ينكد عدوّه ويُحزنه ، فإذا علموا أنّ النبي لا يحزَن لما أصابه زال فرحهم .
وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق : وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم ، كما قال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } [ آل عمران : 139 ، 140 ] . وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضى ربّهم لأنهم واثقون بأنّ الله يريد نصر دينه .
وجملة { هو مولانا } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا ، ولنا الرجاء بأنّه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العَاجل أو الآجل ، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي .
وجملة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { قل } فهي من كلام الله تعالى خبراً في معنى الأمر ، أي قل ذلك ولا تتوكّلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء ، أي اعتمدوا على فضله عليكم .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { لن يصيبنا } أي قل ذلك لهم ، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكّلون إلا على الله ، أي يؤمنون بأنّه مؤيّدهم ، وليس تأييدهم بإعانتكم ، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها . والفاء الداخلة على { فليتوكل المؤمنون } فاء تدلّ على محذوف مفرّع عليه اقتضاه تقديم المعمول ، أي على الله فليتوكّل المؤمنون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} من شدة أو رخاء، {هو مولانا}، يعني ولينا، {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يعني وبالله فليثق الواثقون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مؤدّبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك:"لَنْ يُصِيبَنا" أيها المرتابون في دينهم "إلاّ ما كَتَبَ اللّهُ لَنا "في اللوح المحفوظ وقضاه علينا. "هُوَ مَوْلانا" يقول: هو ناصرنا على أعدائه. "وَعلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ" يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه ولم يرجوا النصر من عند غيره ولم يخافوا شيئا غيره، يكفهم أمورهم وينصرهم على من بغاهم وكادهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المؤمن لا تلحقُه شماتةُ عدوِّه لأنه ليس يرى إلا مُرادَ وليِّه، فهو يتحقق أنَّ ما ينالُه مرادُ مولاه فيسقطُ عن قلبِه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فَيَعْذُبُ عنده ما كان يَصْعُبُ مِنْ بلواه...
ويقال شَهودُ جريانِ التقدير يخفف على العبد تَعَبَ كلِّ عسير.
قوله {هُوَ مَوْلاَنَا}: تعريفٌ للعبد أن له -سبحانه- أن يفعل ما يريد، لأنه تصرفُ مالكِ الأعيانِ في مُلْكِه، فهو يُبْدِي ويُجْرِي ما يريد بحقِّ حُكْمِه. ثم قال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}: وأولُ التوكلِ الثقةُ بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيانُ أمورِك بما يغْلِبُ على قلبك من أذكاره. ويقال التوكل سكونُ السِّرِّ عند حلول الأمر، ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوُ والمرُّ، والنعمةُ والمحنةُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
واللام في قوله: {إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلاّ ما اختصنا الله [به] بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله: {هُوَ مولانا} أي الذي يتولانا ونتولاه، {ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم}.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب، ومنه {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليكم رطباً جنياً} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير: «تغدو خماصاً» الحديث.
فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل بهم مصائب، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت.
ثم قال تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} وفيه أقوال:
القول الأول: أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله، وكونه مكتوبا عند الله يدل على كونه معلوما عند الله مقضيا به عند الله، فإن ما سواه ممكن، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره...
القول الثاني: في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى {لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم، إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم، فيكون ذلك اغتياظا للمنافقين وردا عليهم في ذلك الفرح.
والقول الثالث: قال الزجاج: المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك، صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة، وهذه الأقوال وإن كانت حسنة، إلا أن الحق الصحيح هو الأول. ثم قال تعالى: {هو مولانا} والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء، وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم، ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله، فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم، ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده، فحسن منه تعالى تلك التصرفات، بمجرد كونه مولى لهم، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله.
ثم قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان، فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه، وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته، لأن قوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يفيد الحصر، وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قولهم هذا متضمناً لتوهمهم القدرة على الاحتراس من القدر، قال تعالى معلماً بجوابهم مخاطباً للرأس لعلو المقام: {قل} أي إنا نحن لا نقول مقالتكم لمعرفتنا بأنا لا نملك ضراً ولا نفعاً، بل نقول: {لن يصيبنا} أي من الخير والشر {إلا ما كتب} أي قدر {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، ولما كان قضاء الله كله خيراً للمؤمن إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، عبر باللام فقال: {لنا} أي لا يقدر على رده عنا إلا هو سبحانه {هو} أي وحده {مولانا} أي القريب منا الذي يلي جميع أمورنا، لا قريب منا سواه، فلو أراد لدفع عنا كل مصيبة لأنه أقرب إلينا منها، لا تصل إلينا بدون علمه وهو قادر، فنحن نعلم أن له في ذلك لطيف سريرة تتضاءل دونها ثواقب الأفكار وتخسأ عن الإحاطة بتحقيقها نوافذ الأبصار فنحن لا نتهمه في قضائه لأنا قد توكلنا عليه وفوضنا أمورنا إليه، والموكل لا يتهم الوكيل {وعلى الله} أي الملك الأعلى لا غيره {فليتوكل المؤمنون} أي كلهم توكلاً عظيماً جازماً لا معدل عنه، فالفيصل بين المؤمن والكافر هو إسلام النفس إليه وحده بلا اعتراض عليه يقلبها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين الذين تفرحهم مصيبتك، وتسوءهم نعمتك وغنيمتك، لن يصيبنا إلا ما كتبه الله وأوجبه لنا بوعده في كتابه، وتقديره لنظام سننه في خلقه، من نصر وغنيمة وتمحيص وشهادة، وضمان لحسن العاقبة. {هو مولانا} أي هو وحده مولانا يتولانا بالتوفيق والنصر، ونتولاه باللجأ إليه، والتوكل عليه، فلا نيأس عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، وقد قال لنا في وعده {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال: 39، 40]، وقال في بيان سنته في خلقه {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 10، 11]، وقال في سنته في العواقب {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128]. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أمر مبني على ما قبله، أي وإذ كان الله هو مولاهم فحق عليهم أن يتوكلوا عليه وحده دون غيره، مع القيام بما أوجبه عليهم في شرعه، والاهتداء بسننه في خلقه، ومنها ما أخبرهم به من أسباب النصر المادية والمعنوية التي فصلها في سورة الأنفال وغيرها، كإعداد ما تستطيع الأمة من قوة، واتقاء التنازع الذي يولد الفشل ويفرق الكلمة، وذلك بأن يكلوا إليه توفيقهم لما يتوقف عليه النجاح وتسهيل أسبابه التي لم يصل إليها كسبهم، وما أجهل من يظن أن التوكل وكتابة المقادير يقتضيان ترك العمل والتدبير، وقد بسطنا القول في الأمرين في مواضع من هذا التفسير. ويقابل التوكل عليه تعالى بالمعنى الذي ذكرناه، وما أيدناه به من كتاب الله، اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا ما أدركهم العجز وخانتهم القوة أمام قوة تفوقها، خانهم الصبر، وأدركهم اليأس، إذ ليس لهم ما للمؤمنين من التوكل على ذي القوة التي لا تعلوها قوة، وشر منه اتكال الخرافيين على الأوهام، وتعلق آمالهم بالأماني والأحلام، حتى إذا ما انكشفت أوهامهم، وكذبت أحلامهم، وخابت آمالهم، نكسوا رؤوسهم، ونكصوا على أعقابهم، واستكانوا لأعدائهم، وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين. ووعد الله أصدق من دعواهم الإيمان، وإنما وعد بالنصر أولياءه لا أولياء الشيطان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم للّه، والرضى بقدره، واعتقاد الخير فيه. والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة اللّه، وأن اللّه ناصر له ومعين: (قل: لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون).. واللّه قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء، فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة اللّه، نصراً عزيزاً لا رخيصاً، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية. واللّه هو الناصر وهو المعين: (وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون).. والاعتقاد بقدر اللّه، والتوكل الكامل على اللّه، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق. فذلك أمر اللّه الصريح:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تلقين جواب لقولهم: {قد أخذنا أمرنا من قبل} [التوبة: 50] المنبئ عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلاّ بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض كما تدلّ عليه تعدية فعل {كتب} باللام المؤذنة بأنّه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا الجواب هو أن العدوّ يفرح بمصاب عدوّه لأنّه ينكد عدوّه ويُحزنه، فإذا علموا أنّ النبي لا يحزَن لما أصابه زال فرحهم. وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق: وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم، كما قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} [آل عمران: 139، 140]. وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضى ربّهم لأنهم واثقون بأنّ الله يريد نصر دينه. وجملة {هو مولانا} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، ولنا الرجاء بأنّه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العَاجل أو الآجل، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي. وجملة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {قل} فهي من كلام الله تعالى خبراً في معنى الأمر، أي قل ذلك ولا تتوكّلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء، أي اعتمدوا على فضله عليكم. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {لن يصيبنا} أي قل ذلك لهم، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكّلون إلا على الله، أي يؤمنون بأنّه مؤيّدهم، وليس تأييدهم بإعانتكم، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها. والفاء الداخلة على {فليتوكل المؤمنون} فاء تدلّ على محذوف مفرّع عليه اقتضاه تقديم المعمول، أي على الله فليتوكّل المؤمنون...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فقد قدّر الله للحياة أوضاعها، من خلال ما أودعه من أسباب ذلك كله، وجعل النتائج السلبية والإيجابيّة محكومةً لذلك. ولذلك فإن المسألة لا تخضع لتمنِّيات الأصدقاء أو لشماتة الأعداء، فلا يملك أحدٌ من أمر ذلك شيئاً، لأنهم لا يملكون لأنفسهم وللآخرين ضرّاً ولا نفعاً إلا بالله. أمّا المؤمنون به، الواثقون برحمته وقدرته وحكمته، فإنهم يواجهون الحياة من موقع الطمأنينة الواثقة بالله وبسننه الكونيّة التي أجرى عليها حركة الكون في تقديره وتدبيره، ولهذا فإنهم ينطلقون من قاعدة الثقة الواعية، في دراسة دورهم الفاعل في ما يفعلون ويتركون، فإذا قاموا بما يجب عليهم من مسؤوليات من خلال قدرتهم، واجهوا المستقبل بثقةٍ، وتحمّلوا كل نتائجه بصبر، وانطلقوا مع حركته بوعي وإيمانٍ لثقتهم بتدبير الله في ما لا يملكون أمره ولا يبلغون مداه، فيتقبلون كل شيءٍ لله وبالله ومع الله، في كل شيء، {هُوَ مَولانَا} الذي يملك ولاية أمورنا، فعلينا أن نطيعه في ما يأمر به وينهى عنه، ونستسلم لتدبيره في ما يهيمن عليه من شؤون الحياة بما تفرضه حكمته ورحمته، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ليسلّموا له كل شيءٍ في حركة المستقبل المجهول الذي قد يوحي إليهم بالخوف في ما يجهلون من أسراره، ولكن الإيمان يحمل إليهم الطمأنينة من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة به. وذلك هو سرّ العقيدة الإسلامية بالقضاء والقدر في استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره من موقع الوعي للعقيدة بالله، فليس هو استسلام الإنسان المهزوم بإرادته، الخائف من مسؤوليته، بل هو استسلام الثقة بالله في ما يجهله، بعد انطلاقه من مواقع الإرادة المسؤولة التي تحرّك الحياة من حوله في ما يمكنه أن يعمل، ليترك الأشياء الأخرى التي لا يستطيع عملها لله، على أساس الثقة المطلقة بحكمته في كل شيء، وبذلك فإن العقيدة تثبّت له أقدامه على الأرض التي يحاول القلق الذاتيّ والخوف الوجداني من المجهول، أن يهزها من تحت أقدامه، وتوحي له بالثبات والاستقرار والاطمئنان...