مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (51)

ثم قال تعالى : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } وفيه أقوال :

القول الأول : أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ، ولا خوف ولا رجاء ، ولا شدة ولا رخاء ، إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله ، وكونه مكتوبا عند الله يدل على كونه معلوما عند الله مقضيا به عند الله ، فإن ما سواه ممكن ، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب ، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره .

واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء الله شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال ، وتقرير هذا الكلام من وجوه : أحدها : أن الموجود إما واجب وإما ممكن ، والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه ، فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته ، وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه . ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام : «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » وثانيها : أن الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها ، فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلا والحكم الصدق كذبا ، وكل ذلك محال ، وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } .

فإن قيل : إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك ؟

قلنا : السبب فيه قوله صلى الله عليه وسلم : «من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب » فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع ، زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به .

القول الثاني : في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم ، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم ، إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم ، فيكون ذلك اغتياظا للمنافقين وردا عليهم في ذلك الفرح .

والقول الثالث : قال الزجاج : المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة ، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا ، وإذا كان الأمر كذلك ، صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة ، وهذه الأقوال وإن كانت حسنة ، إلا أن الحق الصحيح هو الأول .

ثم قال تعالى : { هو مولانا } والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء ، وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ، ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله ، فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ، ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده ، فحسن منه تعالى تلك التصرفات ، بمجرد كونه مولى لهم ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله .

ثم قال تعالى : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان ، فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه ، وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته ، لأن قوله : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يفيد الحصر ، وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية .