232- وإذا طلقتم النساء وأتممتم عدتهن ، وأرادت إحداهن أن تستأنف زواجاً جديداً من المطلق أو من رجل آخر غيره ، فلا يحل للأولياء ولا للزوج المطلق أن يمنعوهنَّ من ذلك إذا تراضى الطرفان على عقد جديد وإرادة حياة كريمة تؤدى إلى حسن العشرة بينهما ، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر ، ذلكم أدعى إلى تنمية العلاقات الشريفة في مجتمعكم وأطهر في نفوسكم من الأدناس والعلاقات المريبة ، والله يعلم من مصالح البشر وأسرار نفوسهم ما يجهلون الوصول إليه .
قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } . نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني ، كانت تحت أبي القداح عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد ابن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن أبي عمرو ، حدثني أبي حدثني إبراهيم عن يونس عن الحسن قال : حدثني معقل بن يسار ، قال : زوجت أختاً لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له : زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها ؟ لا والله لا تعود إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله تعالى :
قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } . فقلت : الآن أفعل يا رسول الله ، قال : فزوجتها إياه . قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن ، { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } أي لا تمنعوهن عن النكاح . والعضل : المنع ، وأصله الضيق والشدة ، يقال : عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها فضاق عليه الخروج ، والداء العضال الذي لا يطاق علاجه ، وفي الآية دليل على أن المرأة لا تلي عقد النكاح ، إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن هناك عضل ، ولا لنهي الولي عن العضل معنى ، وقيل الآية خطاب مع الأزواج لمنعهم من الإضرار ، لأن ابتداء الآية خطاب معهم ، والأول أصح .
قوله تعالى : { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } . بعقد حلال ومهر جائز .
قوله تعالى : { ذلك } . أي ذلك الذي ذكر من النهي .
قوله تعالى : { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } . وإنما قال ذلك موحداً ، والخطاب للأولياء ، لأن الأصل في مخاطبة الجمع : ذلكم ، ثم كثر حتى توهموا أن الكاف من نفس الحرف وليست بكاف خطاب فقالوا ذلك ، فإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة ، منصوبة في الاثنين ، والجمع والمؤنث والمذكر قيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلذلك وحد ، ثم رجع إلى خطاب المؤمنين فقال :
قوله تعالى : { ذلكم أزكى لكم } . أي خير لكم .
قوله تعالى : { وأطهر } . لقلوبكم من الريبة ، وذلك أنه إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حيث لم يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحل الله لهما ولم يؤمن من الأولياء أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون .
قوله تعالى : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . أي يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه مالا تعلمون أنتم .
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة ، وأراد زوجها أن ينكحها ، ورضيت بذلك ، فلا يجوز لوليها ، من أب وغيره ، أن يعضلها ، أي : يمنعها من التزوج به حنقا عليه ، وغضبا ، واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول .
وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإيمانه يمنعه من العضل ، فإن ذلك أزكى لكم وأطهر وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي : واللائق وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم التزويج له{[146]} كما هو عادة المترفعين المتكبرين .
فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه ، فالله { يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم ، مريد لها ، قادر عليها ، ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره .
وفي هذه الآية ، دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح ، لأنه نهى الأولياء عن العضل ، ولا ينهاهم إلا عن أمر ، هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق .
ثم بين - سبحانه - ما ينبغي اتباعه عند حصول الطلاق وإمضائه حتى لا يقع ظلم أو جور فقال - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } .
قال القرطبي : تعضلوهن معناه تحبسوهن ، ودجاجة معضل أي : قد احتبس بيضها ، وقيل : العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس . يقال : أعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل . قال الأزهري : وأصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ويقال أعضل الأمر إذا اشتد ، وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء . . . " .
والمعنى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي : انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن ، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به ، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين ، وتقره العقول السليمة ، ويجري به العرف الحسن .
والمراد ببلوغ الآجل هنا بلوغ أقصى العدة ، بخلاف البلوغ في الآية التي قبل هذه ، فإن المراد به المشارفة والمقاربة كما أشرنا من قبل لأن المعنى يحتم ذلك ، والخطاب هنا للأزواج وللأولياء ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة ، وذلك لأن منع الزوجة من الزواج بعد انقضاء عدتها قد يكون من جانب الزوج السابق ، لا سيما إذا كان صاحب جاه وسلطان وسطوة ، فإنه يعز عليه أن يتزوج مطلقته أحد بعده فيمنعها من الزواج .
وقد يكون المنع من جانب الأولياء ، وقد أورد المفسرين آثاراً تشهد لذلك منها - كما يقول الآلوسي - ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقه ، ولم يراجعها حتحى انقضت العدة ، فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب . فقلت له : أكرمتك بها وزوجتكما فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبداً ، وكان رجلا لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله - تعالى - حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل هذه الآية . ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . . " .
وعبر - سبحانه - عن الرجال الذين هم محل الرضا من النساء بالأزواج فقال { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } مع أن الزواج لم يتحقق بعد ، للإِشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة ، وهي أن من يقع اختيارها عليه ، ولم يكن اقترانها به فيه ما يشينها أو يشين أسرتها ، فمن الواجب ألا يمانع أحد في إتمام هذا الزواج ، بل على الجميع أن يقروه وينفذوه ، لأن شريعة الله والفطرة الإِنسانية يقضيان بذلك .
وقوله : { أَن يَنكِحْنَ } تقديره : من أن ينكحن فهو في محل جر عند الخليل والكسائي وفي محل نصب عند غيرهما ، وقوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } ظرف لأن ينكحن أو لقوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } وقوله : { بالمعروف } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا ، أو هو نعت لمصدر محذوف أي تراضياً كائناً بالمعروف أو هو متعلق بتراضوا . أي تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة ، وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من العضل المنهي عنه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : ذلك القول الحكين ، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به ، ويستجيب له من كان منكم عميق الإِيمان بالله - تعالى - وبثوابه وبعقابه يوم القيامة . لذكلم الذي شرعه الله لكم - أيها المؤمنون - من ترك عضل النساء والإِضرار بهن وغير ذلك من الأحكام { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي أعظم بركة ونفعاً ، وأكثر تطهيراً من دنس الآثام ، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة ، ولم تظلم في رغباتها المشروعة ، التمزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف ، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه .
والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا .
والإِشارة بقوله : { ذلك } إلى ما فصل من أحكام وما أمر به من أفعال والخطاب لكل من يصلح للخطاب من المكلفين .
وخصص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون به ، وترق معه قلوبهم وتخشع له نفوسهم .
وأتى - سبحانه - بضمير الجمع { ذلكم } بعد أن قال في صدر الجملة { ذلك } للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين ، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعاً ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإِسلام .
وقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } رد على كل معترض على تطبيق شريعة الله ، أو متهاون في ذلك بدعوى أنها ليست صالحة للظروف التي يعيش ذلك المعترض أو هذا المتهاون فيها ، لأن شرع الله فيه النفع الدائم والمصلحة الحقيقية ، والنتائج المرضية ، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئاً ، ويعلم ما هو الأنفع والأصلح للناس في كل زمان ومكان ، ولم يشرع لهم - سبحانه - إلا ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم ، وما دام علم الله - تعالى - هو الكامل ، وعلم الإِنسان علم قاصر ، فعلينا أن نتبع شرع الله في كل شئوننا ، ولنقل لأولئك المعترضين أو المتهاونين : سيروا معنا في طريق الحق فذلكم { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وبعد : فهذه خمس آيات قد تحدثت عن جملة من الأحكام التي تتعلق بالطلاق ، وإذا كان الإِسلام قد شرع الطلاق عند الضرورة التي تحتمها مصلحة الزوجين ، فإنه في الوقت نفسه قد وضع كثيراً من التعاليم التي يؤدي اتباعها إلا الإبقاء على الحياة الزوجية ، وعلى قيامها على المودة والرحمة ، ومن ذلك :
1 - أنه أرشد أتباعه إلى أفضل السبل لاختيار الزوج ، بأن جعل أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق القويم ، لأنه متى كان كل من الزوجين متحلياً بالإِيمان والتقوى ، استقرت الحياة الزوجية بينهما ، وقامت على المودة والرحمة وحسن المعاشرة .
2 - أنه أمر كلا الزوجين بأن يبذل كل واحد منهما قصارى جهده في أداء حق صاحبه ، وإدخال السرور على نفسه ، فإذا ما نجم خلاف بينهما فعليهما أن يعالجاه بالحكمة والعدل ، وأن يجعلا الأناة والصبر رائدهما ، فإن الحياة الزوجية بحكم استمرارها وتشابك مطالبها لا تخلو من اختلاف بين الزوجين .
3 - دعا الإِسلام إلى الإِصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة تسير في غير طريق المودة ، فقال - تعالى - { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ . . . } كما دعا أولى الأمر أن يتدخلوا للإِصلاح بين الزوجين عند نشوب الشقاق بينهما أو عند خوفه فقال - تعالى - { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .
4 - نهى الإِسلام عن إيقاع الطلاق على الزوجة في حال حيضها ، أو في حال طهر باشرها فيه ، لأن المرأة في هاتين الحالتين قد تكون على هيئة لا تجعل الرجل مشوقاً إليها . . .
وأباح له أن يوقع الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، لأن إيقاعه في هذه الحالة يكون دليلا على استحكم النفرة بينهما .
5 - نهى الإِسلام عن الطلاق البات بالنسبة للمرأة المدخول بها ، وأمر الزوج بأن يجعل طلاقه رجعياً ، وأعطاه فرصة طويلة تقرب من ثلاثة أشهر ليراجع خلالها نفسه ، فإن وجد الخير في مراجعة زوجته راجعها بقصد الإِصلاح واستمرار الحياة الزوجية ، وإن وجد الخير في غير ذلك تركها حتى تنقضي عدتها وفارقها بالمعروف عملا بقوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
6 - جعل الإِسلام الطلاق بيد الرجل ، لأنه هو الذي وقعت عليه معظم أعباء الزواج ، وهو الذي سيتحمل ما سيترتب على الطلاق من تكاليف ، ولا شك أنه بمقتضى هذه التكاليف وبمقتضى حرصه على استقرار حياته ، سيتأنَّى ويتروى فلا يوقع الطلاق إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك .
كما أن الإِسلام أباح للمرأة أن تفتدي نفسها من زوجها ، أو ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينها وبينه إذال تيقنت من استحالة استمرار الحالة الزوجية بينهما لأي سبب من الأسباب . وفي هذه الحالة فللقاضي أن يفرق بينهما إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك .
7 - أباح الإِسلام للرجل الذي طلق امرأته ثلاثاً أن يعود إليها من جديد ، وذلك بعد طلاقها من رجل آخر يكون قد تزوجها زواجاً شرعياً وانقضت عدتها منه ، وفي ذلك ما فيه من التأديب لهما ، والتهذيب لسلوكهما .
8 - وردت أحاديث متعددة تنهى عن إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة وتتوعد المرأة التي تطلب من زوجها أن يطلقها بدون سبب معقول بالعذاب الشديد ، ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس - أي من غير عذر شرعي أو سبب قوي - فحرام عليها رائحة الجنة " وروى أبو داود وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
هذه بعض التشريعات التي وضعها الإِسلام لصيانة الحياة الزوجية من التصدع والانهيار ، ومنها نرى أن الإِسلام وإن كان قد شرع الطلاق ، إلا أنه لا يدعو إليه إلا إذا كانت مصلحة الزوجين أو أحدهما تقتضيه وتستلزمه .
كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة - حين توفي العدة - ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ) . .
وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار ، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] فكانت عنده ما كانت . ثم طلقها تطليقة لم يراجعها ، حتى انقضت عدتها ؛ فهويها وهويته ؛ ثم خطبها مع الخطاب . فقال له : يا لكع ابن لكع ! أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها . والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك . قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن )إلى قوله : ( وأنتم لا تعلمون ) . . فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة . ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك . .
وهذه الاستجابة الحانية من الله - سبحانه - لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم ، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده . . أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد ، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة ، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم ، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال .
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير :
( ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب . حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض ؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع . . والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة ، واغتنام الزكاة والطهر . لنفسه وللمجتمع من حوله . ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام .
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة ، ويعلقه بعروة الله ، ويطهره من شوائب الأرض ، وأدران الحياة ، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها{[3982]} وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها . وكذا{[3983]} روى العوفي ، عنه ، وكذا قال مسروق ، وإبراهيم النخعي ، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك . وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في تزويجها{[3984]} من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما جاء في الحديث : لا تزوج المرأةُ المرأةَ ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها{[3985]} . وفي الأثر الآخر : لا نكاح إلا بولي مرشد ، وشاهدي عدل . وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري ، رحمه الله ، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية :
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت تخطب إلي - قال البخاري : وقال إبراهيم ، عن يونس ، عن الحسن : حدثني معقل بن يسار . وحدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يونس ، عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها ، فخطبها ، فأبى معقل ،
فنزلت : { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }{[3986]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه من طرق متعددة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، به{[3987]} . وصححه الترمذي أيضًا ، ولفظه عن معقل ابن يسار : أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع{[3988]} أكرمتك بها وزوجتكها ، فطلقتها ! والله لا ترجع إليك أبدًا ، آخر ما عليك قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها معقل قال : سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني .
وروى ابن جرير{[3989]} عن ابن جريج قال : هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح ، وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : هي فاطمة بنت يسار . وهكذا ذكر غير واحد من السلف : أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته . وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله ، وابنة عم له ، والصحيح الأول ، والله أعلم .
وقوله : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يؤمن بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة{[3990]} وما فيها من الجزاء { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي : اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك ، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي : من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .
{ وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَىَ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوّجها من ابن عم لها ، فطلقها وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها ، ثم خطبها منه ، فأبى أن يزوّجها إياه ومنعها منه وهي فيه راغبة .
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : كان ذلك الرجل معقل بن يسار المُزَني . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار ، قال : كانت أخته تحت رجل فطلقها ثم خلا عنها حتى إذا انقضت عدتها خطبها ، فحَمِيَ معقل من ذلك أَنَفا وقال : خلا عنها وهو يقدر عليها فحال بينه وبينها . فأنزل الله تعالى ذكره : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، عن معقل بن يسار : أن أخته طلقها زوجها ، فأراد أن يراجعها ، فمنعها معقل ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني معقل بن يسار ، قال : كانت لي أخت تُخطَب وأمنعها الناس ، حتى خطب إليّ ابن عم لي فأنكحتها ، فاصطحبا ما شاء الله ، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها ، ثم خطبت إليّ فأتاني يخطبها مع الخطاب ، فقلت له : خطبت إليّ فمنعتها الناس ، فآثرتك بها ، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة ، فلما خطبت إليّ آتيتني تخطبها مع الخطاب ؟ والله لا أنكحها أبدا قال : ففيّ نزلت هذه الآية : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ قال : فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ ذكر لنا أن رجلاً طلق امرأته تطليقة ، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها ، ثم قرّب بعد ذلك يخطبها والمرأة أخت معقل بن يسار فأنف من ذلك معقل بن يسار ، وقال : خلا عنها وهي في عدتها ولو شاء راجعها ، ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه ؟ فأبى عليها أن يزوّجها إياه . وذكر لنا أن نبيّ لله لما نزلت هذه الآية دعاه فتلاها عليه ، فترك الحمية واستقاد لأمر الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن قوله تعالى : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ إلى آخر الآية ، قال : نزلت هذه الآية في معقل بن يسار . قال الحسن : حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه ، قال : زوّجت أختا لي من رجل فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها ، فقلت له : زوّجتك وفرشتك أختي وأكرمتك ، ثم طلقتها ، ثم جئت تخطبها ؟ لا تعود إليك أبدا قال : وكان رجل صدق لا بأس به ، وكانت المرأة تحبّ أن ترجع إليه ، قال الله تعالى ذكره : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ قال : فقلت الاَن أفعل يا رسول الله فزوّجها منه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن بكر بن عبد الله المزني ، قال : كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها ، فخطب إليه ، فمنعها أخوها ، فنزلت : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ الآية ، قال : نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه ، فنكحها آخر ، فعضلها أخوها معقل بن يسار يضارّها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأوّل .
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في معقل بن يسار ، قال ابن جريج أختهُ جميَل ابنة يسار كانت تحت أبي البداح طلّقها ، فانقضت عدتها ، فخطبها ، فعضلها معقل بن يسار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول وهو معقل بن يسار أخوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله ، إلا أنه لم يقل فيه : وهو معقل بن يسار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق الهمداني : أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها ، ثم بدا له فخطبها ، فأبى معقل ، فقال : زوّجناك فطلقتها وفعلت فأنزل الله تعالى ذكره : فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : فَلا تَعْضُلُوهُنّ قال : نزلت في معقل بن يسار ، كانت أخته تحت رجل ، فطلقها ، حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها ، فعضلها معقل ، فأبى أن ينكحها إياه ، فنزلت فيها هذه الآية يعني به الأولياء يقول : فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن رجل ، عن معقل بن يسار قال : كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة ، فخطبها ، فأبيت أن أزوّجها منه ، فأنزل الله تعالى ذكره : فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُن . . . الآية .
وقال آخرون : كان الرجل جابر بن عبد الله الأنصاري . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ . قال : نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري ، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدتها ، ثم رجع يريد رجعتها ، فأما جابر فقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها قد راضته ، فنزلت هذه الآية .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل عن مضارّة وليته من النساء ، يعضلها عن النكاح . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فتنقضي عدّتها ، يبدو له في تزويجها وأن يراجعها ، وتريد المرأة ، فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلُهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضُوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ كان الرجل يطلق امرأته تبين منه ، وينقضي أجلها ، ويريد أن يراجعها ، وترضى بذلك ، فيأبى أهلها ، قال الله تعالى ذكره : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنُهُمْ بالمَعْرُوفِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في قوله : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ قال : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يبدو له أن يتزوّجها ، فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها ، فقال الله تعالى ذكره : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ قال : المرأة تكون عند الرجل فيطلقها ، ثم يريد أن يعود إليها فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب : قال الله تعالى ذكره : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ . . . الآية ، فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها ، فانقضت عدّتها ، فليس له أن يعضلها حتى يرثها ويمنعها أن تستعف بزوج .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ هو الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يسكت عنها ، فيكون خاطبا من الخطاب ، فقال الله لأولياء المرأة : لا تعضلوهن ، يقول : لا تمنعوهنّ أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد إذا تراضوا بينهم بالمعروف إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد .
والصواب من القول في هذه الآية أن يقال : إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء بعضلهنّ عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهنّ ، فبنّ منهنّ بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح . وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه ، وأي ذلك كان فالآية دالة على ما ذكرت .
ويعني بقوله تعالى : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهنّ أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن ، يقال منه : عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلاً .
وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها : عَضِلَ يَعْضَلُ ، فمن كان من لغته عضِل ، فإنه إن صار إلى يَفْعَلِ ، قال : يَعْضَل بفتح الضاد ، والقراءة على ضم الضاد دون كسرها ، والضم من لغة من قال عَضَل . وأصل العَضْل : الضيق ، ومنه قول عمر رحمة الله عليه : «وقد أعضل بي أهل العراق ، لا يرضون عن وال ، ولا يرضى عنهم وال » ، يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به ، ومنه أيضا : الداء العُضال ، وهو الداء الذي لا يطاق علاجه لضيقه عن العلاج ، وتجاوزه حدّ الأدواء التي يكون لها علاج ، ومنه قول ذي الرمة :
ولَمْ أقْذِفْ لمُؤْمِنَةٍ حَصَانٍ *** بإذْنِ اللّهِ مُوجِبَةً عُضَالا
ومن قيل : عضل الفضاء بالجيش لكثرتهم : إذا ضاق عنهم من كثرتهم . وقيل : عضلت المرأة : إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها ، ومنه قول أوس بن حجر :
وَلَيْسَ أخُوكَ الدّائِمُ العَهْدِ بالّذِي *** يَذُمّكَ إنْ ولّى وَيُرْضيكَ مُقْبِلاَ
ولَكِنّهُ النّائي إذَا كُنْتُ آمِنا *** وَصَاحِبُكَ الأدْنَى إذَا الأمْرُ أعْضَلا
و «أن » التي في قوله أنْ يَنْكِحْنَ في موضع نصب قوله : تَعْضُلُوهُنّ .
ومعنى قوله : إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوف إذا تَرَاضى الأزواج والنساء بما يحلّ ، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهنّ من المهور ونكاح جديد مستأنف . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْكحُوا الأيامَى » فقال رجل يا رسول الله ما العلائق بينهم ، قال : «ما تَرَاضَى عَلَيْهِ أهْلُوهُمْ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن الحارث ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو منه .
وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال : لا نكاح إلا بوليّ من العصبة . وذلك أن الله تعالى ذكره منع الوليّ من عضل المرأة إن أرادت النكاح ، ونهاه عن ذلك ، فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها ، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم ، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها ، وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها ، فلا عضل هنالك لها من أحد ، فينهى عاضلها عن عضلها .
وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه صحة القول بأن لولّي المرأة في تزويجها حقا لا يصحّ عقده إلا به ، وهو المعنى الذي أمر الله به الولّي من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به ، وكان رضى عند أوليائها جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله ، ونهاه عن خلافه من عضلها ، ومنعها عما أرادت من ذلك وتراضت هي والخاطب به .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر .
يعني تعالى ذكره بقوله ذلك ما ذكر في هذه الآية : من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح يقول : فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الاَخر ، يعني يصدّق بالله فيوحده ، ويقرّ بربوبيته ، واليَوْمِ الأخِر يقول : ومن يؤمن باليوم الاَخر فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب ، ليتقي الله في نفسه ، فلا يظلمها بضرار وليته ، ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها ممن أذنت لها في نكاحه .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ وهو خطاب للجميع ، وقد قال من قبل : فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع ذلك أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم أيها القوم : هذا غلامك وهذا خادمك ، وأنت تريد : هذا خادمكم وهذا غلامكم ؟ قيل لا ، إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات ، لأن ما أضيف له الأسماء غيرها ، فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة أيها القوم هذا غلامك ، أنه عنى بذلك : هذا غلامكم ، إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك ، فإن طلب لمنطقه ذلك وجها ، فالصواب صرف كلامه ذلك إلى إنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم ، وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام ، وليس ذلك كذلك في ذلك لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها ، حتى صارت الكاف التي هي كناية اسم المخاطب فيها كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة بها ، وصارت الكلمة بها كقول القائل هذا ، كأنها ليس معها اسم مخاطب ، فمن قال : ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كان مِنْكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِر أقر الكاف من ذلك موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء والواحد من الرجال ، والتثنية والجمع ، ومن قال : ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ كسر في خطاب الواحدة من النساء ، وفتح في خطاب الواحد من الرجال فقال في خطاب الاثنين منهم ذلكما ، وفي خطاب الجمع ذلكم .
وقد قيل : إن قوله : ذلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك وحّد ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله : مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ وإذا جاء التأويل إلى هذا الوجه لم يكن فيه مؤنة .
القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ أزْكَى لَكُمْ وأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُم لا تَعْلَمُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : ذَلِكُمْ نكاح أزواجهنّ لهنّ ، ومراجعة أزواجهنّ أياهنّ بما أباح لهنّ من نكاح ومهر جديد ، أزكى لكم أيها الأولياء والأزواج والزوجات . ويعني بقوله : أزْكَى لَكُمْ أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن .
وقد دللنا فيما مضى على معنى الزكاة ، فأغنى ذلك عن إعادته .
وأما قوله وأطْهَرَ فإنه يعني بذلك : أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة ، وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما أعني الزوج والمرأة علاقة حب ، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما ، ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين . فأمر الله تعالى ذكره الأولياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة بنكاح مستأنف في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك ، وأن يزوّجها ، لأن ذلك أفضل لجميعهم ، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة . ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ، ما لا يعلمه بعضهم من بعض ، ودلّهم بقوله لهم ذلك في الموضع أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف ، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة ، فقال لهم تعالى ذكره : افعلوا ما أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بي وبثوابي وبعقابي في معادكم في الاَخرة ، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة ، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم ، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن ، وعن الشافعي رحمه الله تعالى دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين . { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } المخاطب به الأولياء لما روي ( أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جميلاء أن ترجع إلى زوجها الأول بالاستئناف ) فيكون دليلا على أن المرأة لا تزوج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى ، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن . وقيل الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضي العدة ولا يتركونهن يتزوجن عدوانا وقسرا ، لأنه جواب قوله { وإذا طلقتم النساء } . وقيل الأولياء والأزواج . وقيل الناس كلهم ، والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر فإنه إذا وجد بينهم وهم راضون به كانوا الفاعلين له والعضل الحبس والتضييق منه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج . { إذا تراضوا بينهم } أي الخطاب والنساء وهو ظرف لأنه ينكحن أو لا تعضلوهن . { بالمعروف } بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروءة ، حال من الضمير المرفوع ، أو صفة لمصدر محذوف ، أو تراضيا كائنا بالمعروف . وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه . { ذلك } إشارة إلى ما مضى ذكره ، والخطاب للجميع على تأويل القبيل ، أو كل واحد ، أو أن الكاف لمجرد الخطاب . والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد . { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه المتعظ به والمنتفع . { ذلكم } أي العمل بمقتضى ما ذكر . { أزكى لكم } أنفع . { وأطهر } من دنس الآثام . { والله يعلم } ما فيه النفع والصلاح . { وأنتم لا تعلمون } لقصور علمكم .
المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك ، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها ، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب ، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك .
وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية وما قاربها ، الأنفة من أصهارهم ، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم ، وربما رأوا الطلاق استخفافاً بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم ، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة ، ورغبة في المراجعة وقد روى في « الصحيح » أن البداح بن عاصم الأنصاري طلق زوجه جُميلا بالتصغير وقيل جُمْلا وقيل جميلة ابنة معقل بن يسار فلما انقضت عدتها ، أراد مراجعتها ، فقال له أبوها معقل بن يسار : « إنك طلقتها طلاقاً له الرجعة ، ثم تركتها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إليَّ أتيتني تخطبها مع الخطاب ، والله لا أنكحتكها أبداً » فنزلت هذه الآية ، قال معقل « فكفرت عن يميني وأرجعتها إليه » وقال الواحدي : نزلت في جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم طلقها زوجها وانقضت عدتها ، ثم جاء يريد مراجعتها ، وكانت راغبة فيه ، فمنعه جابر من ذلك فنزلت .
والمراد من أجلهن هو العدة ، وهو يعضد أن ذلك هو المراد من نظيره في الآية السابقة ، وعن الشافعي « دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين » فجعل البلوغ في الآية الأولى ، بمعنى مشارفة بلوغ الأجل ، وجعله هنا بمعنى انتهاء الأجل . فجملة { وإذا طلقتم النساء } عطف على { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } [ البقرة : 231 ] الآية .
والخطاب الواقع في قوله { طلقتم } و { تعضلوهن } ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه ، فيكون موجهاً إلى جميع المسلمين ، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق إن كان زوجاً ، ويقع منه العضل إن كان ولياً ، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفى في استعمالهم ، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين ، غير المسند إليه الفعل الآخر ، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل ولا العكس ، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير ، فالمراد بقوله : { طلقتم } أوقعتم الطلاق ، فهم الأزواج ، وبقوله { فلا تعضلوهن } النهي عن صدور العضل ، وهم أولياء النساء .
وجعل في « الكشاف » الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق وبلغ المطلقات أجلهن ، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله : « لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين » .
والعضل : المنع والحبس وعدم الانتقال ، فمنه عضَّلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضَّلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج ، والمعاضلة في الكلام : احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ ، وهو التعقيد ، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح . وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح ، فالأب لا يعد عاضلاً برد كفء أو اثنين ، وغير الأب يعد عاضلاً برد كفء واحد .
وإسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه ، والمراد بأزواجهن طالبو المراجعة بعد انقضاء العدة ، وسماهن أزواجاً مجازاً باعتبار ما كان ، لقرب تلك الحالة ، وللإشارة إلى أن المنع ظلم ؛ فإنهم كانوا أزواجاً لهن من قبل ، فهم أحق بأن يُرَجَّعن إليهم .
وقوله : { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } شرط للنهي ، لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين ، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحاً لها ، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي : وهي أن الولي لا يحق له منعها مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة ، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها ، على حد قولهم في المثل المشهور « رضي الخصمان ولم يرض القاضي » .
وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح بناء على غالب الأحوال يومئذٍ ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف مطموع فيه ، معصوم عن الامتهان ، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها ؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها ، فقد يستخف بحقوقها الرجال ، حرصاً على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة .
ووجه الإشارة : أن الله أشار إلى حقين : حق الولي بالنهي عن العضل ؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده لما نهي عن منعه ، ولا يقال : نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافياً ، ولجيء بصيغة : ما يكون لكم ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء ، ولم يقل : أن تُنكحوهن أزواجهن ، وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور فقهاء الإسلام ، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح ، واحتج له الجصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد استعمال العرب في قولهم : نكحت المرأة ، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح ، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر ، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن ، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية ؛ لأنها واردة في شأن الأيامى ولا جبر على أيم باتفاق العلماء .
وقوله : { ذلك يوعظ به } إشارة إلى حكم النهي عن العضل ، وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة ، رعياً لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط ، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل ، وأما جمعها في قوله { ذلكم أزكى لكم } فتجديد لأصل وضعها .
ومعنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض وأقرب للخير ، فأزكى دال على النماء والوفر ، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن حمية وحفاظاً على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة ، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض ؛ لأن فيه سعياً إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب ؛ فإذا كان العضل إباية للضيم ، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم .
وأما قوله : { وأطهر } فهو معنى أنزه ، أي إنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة ، وماذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية والعداوات المتأصلة ، والقلوب المحرَّقة .
ولك أن تجعل { أزكى } بالمعنى الأول ، ناظراً لأحوال الدنيا ، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة ، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة ، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله { أزكى } .
وقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } تذييل وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم ، لمخالفته لعاداتهم القديمة ، وما اعتقدوا نفعاً وصلاحاً وإباء على أعراضهم ، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق ، لأن الله يعلم النافع ، وهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً ، فمفعول { يعلم } محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم ؛ وأنتم لا تعلمون ذلك .