قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم } . يعني : الرجل والمرأة ، والهاء راجعة إلى الفاحشة ، قرأ ابن كثير " اللذان " ، و " اللذين " ، و " هاتان " ، و " هذان " مشددة النون للتأكيد ، ووافقه أهل البصرة في ( فذانك ) ، والآخرون " بالتخفيف ، قال أبو عبيدة : خص أبو عمرو فذانك بالتشديد لقلة الحروف في الاسم .
قوله تعالى : { فآذوهما } . قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان : أما خفت الله ؟ أما استحييت من الله حيث زنيت ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبوهما ، واشتموهما ، قال ابن عباس : هو باللسان واليد ، يؤذى بالتعيير وضرب النعال . فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد ، وقيل : الآية الأولى في الثيب ، وهذه في البكر .
قوله تعالى : { فإن تابا } . من الفاحشة .
قوله تعالى :{ وأصلحا } . العمل فيما بعد .
قوله تعالى : { فأعرضوا عنهما } . فلا تؤذوهما .
قوله تعالى : { إن الله كان تواباً رحيماً } . وهذا كله كان قبل نزول الحدود ، فنسخت بالجد والرجم ، والجلد في القرآن . قال الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور :2 ] . والرجم في السنة .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وكان أفقههما :أجل يا رسول الله ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم ، قال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً ، أي أجيرا ، على هذا ، فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وأما على ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا –أي أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر-فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت فرجمهاأتي امرأة أ .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه .
والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف . وجملة حد الزنا أن الزاني إذا كان محصناً ، وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإصابة بالنكاح الصحيح ، فحده الرجم ، مسلماً كان أو ذمياً ، وهو المراد من الثيب المذكور في الحديث .
وذهب أصحاب الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يرجم الذمي . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا ، وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ ، أو كان مجنوناً فلا حد عليه . وإن كان حراً ، عاقلاً بالغاً ، غير أنه لم يحصن بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام ، وإن كان عبداً فعليه جلد خمسين ، وفي تغريبه قولان : إن قلنا يغرب فيه قولان : أصحهما نصف سنة ، كما يجلد خمسين . على نصف حد الحر .
{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة ، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ، والنساء يحبسن ويؤذين .
فالحبس غايته إلى الموت ، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح ، ولهذا قال : { فَإِنْ تَابَا } أي : رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه ، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي : كثير التوبة على المذنبين الخطائين ، عظيم الرحمة والإحسان ، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم ، وسامحهم عن ما صدر منهم .
ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا ، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين ، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم ؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة ، سترًا لعباده ، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات ، ولا مع الرجال ، ولا ما دون أربعة .
ولا بد من التصريح بالشهادة ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وتومئ إليه هذه الآية لما قال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا ، من غير تعريض ولا كناية .
ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس ، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :
والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .
هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .
قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .
وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .
( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ) .
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم . . . ) هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة . وهو قول مجاهد - رضي الله عنه - وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما : ( فآذوهما ) : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال !
( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) . .
فالتوبة والإصلاح - كما سيأتي - تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك . ومن ثم تقف العقوبة ، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين . وهذا هو الاعراض عنهما في هذا الموضع : أي الكف عن الإيذاء .
( إن الله كان توابا رحيما ) . .
وهو الذي شرع العقوبة ، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح . ليس للناس من الأمر شيء في الأولى ، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة . إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه . وهو تواب رحيم . يقبل التوبة ويرحم التائبين .
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة ، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق . وإذا كان الله توابا رحيما ، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء ؛ أمام الذنب الذي سلف ، وأعقبه التوبة والإصلاح . إنه ليس تسامحا في الجريمة ، وليس رحمة بالفاحشين . فهنا لا تسامح ولا رحمة . ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين ، وقبولهم في المجتمع ، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه ، وتطهروا منه ، وأصلحوا حالهم بعده ، فينبغي - حينئذ - مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها ؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس ، واللجاج في الخطيئة ، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة . والإفساد في الأرض ، وتلويث المجتمع ، والنقمة عليه في ذات الأوان .
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك - فما بعد - فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ قال رسول الله [ ص ] : " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ] .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة ؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة : فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة الله ، وتتولاها بالتنفيذ . فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) كما ورد في سورة المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . . ( والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين ) . . وكرر هذا القول في سورة المعارج .
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ، ولم تكن له فيها سلطة ؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنه في مكة ، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافيةلمكافحة الجريمة ، وصيانة المجتمع من التلوث . لأن الإسلام دين واقعي ، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة . وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية ، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير ، بلا سلطة وبلا تشريع ، وبلا منهج محدد ، ودستور معلوم !
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة ، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب ، وتطهرها وتزكيها . فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة معلومة ، وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة ، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير ، إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة .
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله . على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة ، وبغير نظام ، وبغير سلطان . . كلا ! فالدين منهج للحياة . منهج واقعي عملي . يدين الناس فيه لله وحده ، ويتلقون فيه من الله وحده . يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية ، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية . وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس ، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم ، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية . لتكون الدينونة لله وحده ، ويكون الدين كله لله . أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس ، وتضع لهم القيم والموازين ، والشرائع والأنظمة . فالإله هو الذي يصنع هذا كله . وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس . . وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها ، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ، ويباشرها . . ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا ، بلا شريعة عملية ، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة !
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي ؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ ، والعقوبة والتأديب . على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة ، والتي عدلت فيما بعد ، ثم استقرت على ذلك التعديل . كما أرادها الله .
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة ؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة . فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية ، والانطلاق البهيمي ، بلا ضابط من خلق أو قانون . واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر " الحرية الشخصية " لا يقف في وجهها إلا متعنت ! ولا يخرج عليها إلا متزمت !
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم " الإنسانية " كلها ، ولا يتسامحون في حريتهم " البهيمية " هذه ! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها !
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية ، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها ، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط ، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها ، وضوابط المجتمع ورقابته ، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية ، وعلى تمجيد هذهالشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري !
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع إشعار امرىء القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا ! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع ، وتبذل المرأة ، ومجون العشاق ، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة ، ويجدها تنبع من تصورات واحدة ، وتتخذ لها شعارات متقاربة !
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية ، والحضارة الرومانية ، والحضارة الفارسية قديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك ، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمر الذي يفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر !
مع أن هذه هي العاقبة ، فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية ، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم " الإنسانية " كلها أحيانا ، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم " البهيمية " . ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني !
وهو ليس انطلاقا ، وليس حرية . إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة ! بل هم أضل ! فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة ، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان ، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال . فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد ! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله ؛ وضبط عقله بعقيدته . فمتى انطلق من العقيدة ، ضعف عقله أمام الضغط ، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه . ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس ، إلا بعقيدة تمسك بالزمام ، وسلطان يستمد من هذه العقيدة ، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة . وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام " الإنسان " الكريم على الله .
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، تعيش بلا عقيدة ، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية . وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها ، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها ! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان ! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان !
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة ، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة . مهما بدا من متانة هذه الحضارة ، وضخامة الأسس التي تقوم عليها . " فالإنسان " - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس . ومتى دمر الإنسان ، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ، ولا على الإنتاج !
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ، ندرك جانبا من عظمة الإسلام ، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية " الإنسان " من التدمير ؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل . كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها ، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها ، وتسمية ذلك أحيانا " بالفن " وأحيانا " بالحرية " وأحيانا " بالتقدمية " . . وكل وسيلة من وسائل تدمير " الإنسان " ينبغي تسميتها باسمها . . جريمة . . كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة ! . .
وهذا ما يصنعه الإسلام . والإسلام وحده ؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم .
وقوله : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } أي : واللذان يأتيان{[6790]} الفاحشة فآذوهما . قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير ، والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم .
وقال عكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا .
وقال السدي : نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا .
وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى ، وكأنه يريد اللواط ، والله أعلم .
وقد روى أهل السنن ، من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ " {[6791]}
وقوله : { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصَلُحت أعمالهما وحسنت { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد ثبت في الصحيحين " إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها " أي : ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد ، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ .
{ وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } : والرجل والمرأة اللذان يأتيانها ، يقول : يأتيان الفاحشة والهاء والألف في قوله : { يأْتِيانها } عائدة على الفاحشة التي في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } والمعنى : واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فآذُوهُما } فقال بعضهم : هما البكران اللذان لم يحصنا ، وهما غير اللاتي عنين بالاَية قبلها . وقالوا : قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } معنيّ به الثيبات المحصنات بالأزواج ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } يعني به : البكران غير المحصنين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكحوا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } البكران فآذوهما .
وقال آخرون : بل عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } الرجلان الزانيان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجلان الفاعلان لا يكْني .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } : الزانيان .
وقال آخرون : بل عني بذلك الرجل والمرأة ، إلا أنه لم يقصد به بكر دون ثيب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجل والمرأة .
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } إلى قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما جميعا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فإنْ تَابا وأصْلَحا فأْعَرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء وعبد الله بن كثير ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قال : هذه للرجل والمرأة جميعا .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قول من قال : عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة ، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } قصد البيان عن حكم الزواني ، لقيل : والذين يأتونها منكم فآذوهم ، أو قيل : والذي يأتيها منكم ، كما قيل في التي قبلها : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } فأخرج ذكرهنّ على الجمع ، ولم يقل : واللتان يأتيان الفاحشة . وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه ، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد ، وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه ، ولا تخرجها بذكر اثنين ، فتقول : الذين يفعلون كذا فلهم كذا ، والذي يفعل كذا فله كذا ، ولا تقول : اللذان يفعلان كذا فلهما كذا ، إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية . فإذا كان ذلك كذلك ، قيل بذكر الاثنين ، يراد بذلك الفاعل والمفعول به ، فإما أن يذكر بذكر الاثنين والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين فذلك ما لا يعرف في كلامها . وإذا كان ذلك كذلك ، فبيّن فساد قول من قال : عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } الرجلان ، وصحة قول من قال : عني به الرجل والمرأة وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهنّ في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } لأن هذين اثنان وأولئك جماعة . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يتوفين من قبل أن يجعل لهنّ سبيلاً ، لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سبّ وتعيير ، كما كان السبيل التي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المائة ونفي السنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .
اختلف أهل التأويل في الأذى الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة من قبل أن يجعل لهما سبيلاً منه ، فقال بعضهم : ذلك الأذى ، أذى بالقول واللسان ، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَآذُوهُما } قال : كانا يؤذيان بالقول جميعا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما } فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنفان ويعيران حتى يتركا ذلك .
وقال آخرون : كان ذلك الأذى ، أذى اللسان ، غير أنه كان سبّا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَآذُوهُما } يعني : سبّا .
وقال آخرون : بل كان ذلك الأذى باللسان واليد . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير ، وضرب بالنعال .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام ، والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيىء باللسان أو فعل ، وليس في الاَية بيان أن ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ ، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئها قطع العذر . وأهل التأويل في ذلك مختلفون ، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد ، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما ، وليس في العلم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ في دين ولا دنيا ولا في الجهل به مضرّة ، إذ كان الله جلّ ثناؤه قد نسخ ذلك من محكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما¹ فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما فما أوجب في سورة النور بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما ، فالرجم الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما وأجمع أهل التأويل جميعا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلاً بالحدود التي حكم بها فيهم .
وقال جماعة من أهل التأويل : إن الله سبحانه نسخ بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : كل ذلك نسخته الاَية التي في النور بالحدّ المفروض .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، قال : هذا نسخته الاَية في سورة النور بالحد المفروض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، نسخ ذلك بآية الجلد ، فقال : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فأنزل الله بعد هذا : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { واللاّتِي يأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } . . . الاَية¹ جاءت الحدود فنسختها .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : نسخ الحدّ هذه الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { فأمْسِكُوهُنّ في البُيُوتِ } . . . الاَية ، قال : نسختها الحدود ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } نسختها الحدود .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، ثم نسخ هذا وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للذكر جلد مائة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ } قال : نسختها الحدود .
وأما قوله : { فإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما } فإنه يعني به جلّ ثناؤه : فإن تابا من الفاحشة التي أتيا ، فراجعا طاعة الله بينهما وأصلحا ، يقول : وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما والعمل بما يرضي الله ، فأعرضوا عنهما ، يقول : فاصفحوا عنهما ، وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به ، عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة ، ولا تؤذوهما بعد توبتهما .
وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } فإنه يعني : أن الله لم يزل راجعا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيما بهم ، يعني : ذا رحمة ورأفة .
{ واللذان يأتيانها منكم } يعني الزانية والزاني . وقرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون وتمكين مد الألف ، والباقون بالتخفيف من غير تمكين . { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع ، وقيل بالتعيير والجلد . { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر . { إن الله كان توابا رحيما } علة الأمر بالإعراض وترك المذمة . قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد . وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ، والزانية والزاني في الزناة .
قوله { والذان يأتيانها } فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر ، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله : { واللاّتي يأتين الفاحشة } ولا شكّ أنّ المراد ب { اللذان } صنفان من الرجال : وهما صنف المحصنين ، وصنف غير المحصنين منهم ، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد ، وهو الوجه في تفسير الآية ، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر .
ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين . ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله ، وهو تفسير السدّي وقتادة ، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت ، وللرجال عقوبة على الزنى ، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين ، وهم الأعزبون . وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين : عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس ، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى ، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى . وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين ، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان ، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة { نسائكم } .
وضمير النصب في قوله : { يأتيانها } عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا . ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك . والإيذاء : الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح ، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ ، فهو أعمّ من الجلد ، والآية أجملته ، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم .
وقد اختلف أيمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية : فقال ابن عباس ، ومجاهد : اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكراً كانت أم ثيّبا ، وقوله : { واللذان } تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر ، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم ، فاستفيد التعميم في الحالتين إلاّ أن استفادته في الأولى من صيغة العموم ، وفي الثانية من انحصار النوعين ، وقد كان يغني أن يقال : واللاتي يأتين ، والذين يأتون ، إلاّ أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين .
وجُعل لفظ ( اللاتى ) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط .
وجعل لفظ و { اللذان } للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع ، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكَّر مثل الشخص ، ونحو ذلك ، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز ، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه .
والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد ، لأنّه لم يشرع بعدُ ، فقيل : هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير . وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال ، بناء على تأويله أنّ الآيةَ شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد .
واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور ، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغايةِ قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي ، لأنّ الغاية جعلت مبهمة ، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر ، بعد هذا ، لا غِنى لهم عن إعلامهم به .
واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام ، أن تنسخ بأثقل منها ، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة ، وشرع الجلد بآية سورة النور ، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى ، وقد سوّي في الجلد بين المرأة والرجل ، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها ، إذ كلاهما قد خرق حكماً شرعياً تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره .
ثم إنّ الجلد المعيَّن شرع بآية سورة النور مطلقاً أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] ؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني : محصنين أو أبكاراً ، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم ، وهو ثابت بالعمل المتواتر ، وإن كان الجلد لم يعمل به إلاّ في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين ، إذ جعل حكمهما الرجم . والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم . والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحاً . وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج ، فقد أخرج مالك ، في « الموطأ » ، ورجال الصحيح كلّهم ، حديث عبد الله بن عمر : أنّ اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً وامرأة زنيا ، فقال رسول الله " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " فقالوا « نفضحهم ويجلدون » فقال عبد الله بن سلام « كذبتم إنّ فيها الرجم » فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام « ارفع يدك » فرفع يده فإذا فيها آية الرجم . فقالوا : « صدق يا محمد فيها آية الرجم » فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية ( 22 ) فقال " إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجةِ بعلٍ يُقتل الاثنان ، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوُجدا ، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ أيّامه " . وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني . قد جعل الله لهنّ سبيلاً ، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم " .
ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد ، ولا أحسبه إلاّ توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه ، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم . ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد . وهو خلاف المعروف من مذهبه . وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم . ولم يصحّ . ثم ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث : أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي ، أنّه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث إلى إهله فقال : به جنون ؟ قالوا : لا ، وأبكر هو أم ثيّب ؟ قالوا : بل ثيِّب . فأمر به فرجم .
الثاني : قضيّة الغامدية ، أنّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع ، ثم حتّى ترضعه ، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت .
الثالث : حديث أبي هريرة ، وخالد الجهني ، أنّ رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجَلْ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذَنْ لي في أن أتكلّم ؟ قال : تكَلَّمْ . قال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إنّي سألت أهلَ العلم فأخبروني أنَمَّا على ابني جلدُ مائة وتغريب عام ، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَا والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله ، أمَّا غنمك وجاريتك فرَدٌّ عليك وجلَد ابنه مائة وغربه عاما واغْدُ يا أُنَيْسُ ( هو أُنيْس بن الضَّحاك ويقال ابن مرثد الأَسلَمي ) على زوجةِ هذا ، فإن اعترفت فارجُمها ، فاعترفت فرَجَمَها . قال مالك والعسيف الأجير . هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في « الموطأ » ، وهي مسندة في غيره ، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنَيْن ، قال ابن العربي : هو خبر متواتر نسخ القرآن . يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به . وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر ، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور ، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة .
والقائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبْس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد : { جعل الله لهن سبيلاً } وفيه ( والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) فتضمنّ الجلد ، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة ، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نُسخ بالسنّة ، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن ، وهو لا يرى الأمرين ، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة ، فالحديث بيَّن الغاية ، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك ، والحديث خصّصها من قبلِ نزولها .
قلت : وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريراً لبعض الحكم الذي في حديث الرجم ، على أنّ قوله : إنّ آية النساء مغيّاة ، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّى فاعتبارُها اعتبارُ النسخ ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ . وقال بعضهم شُرع الأذى ثم نسخ بالحبس في البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا . وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلاّ بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت ، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ويندفع ما أورده الجصَّاص على الشافعي ، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ .
ويتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصَن شرع بعد الجلد ، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجَلد ، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم ، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن ، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده . قال ابن العربي في الأحكام : أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه ، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثاً غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصَّة . قلت : وكان في العرب الخَلع وهو أن يُخلع الرجل من قبيلته ، ويشهدون بذلك في الموسم ، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه ، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها ، وقد قال امرؤ القيس :
به الذيب يَعْوِي كالخَليع المُعَيَّلِ
واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة ، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقْل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك ورُوي أنّ عليّا جَلد شراحة الهمْدانية ورجمها بعد الجلد ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله .
وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله : { فاستشهدوا } وقوله { فآذوهما } لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره ، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عندما يكون الخبر جملة ، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط ، بحيث لو كانت جزَاء للزم اقترانها بالفاء . هكذا وجدنا من استقراء كلامهم ، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلات التي تُومِىء إلى وجه بناء الخبر ، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها .
ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن ( أَمَّا ) .
ومن البيّن أنّ إتيانَ النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت ، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل { فاستشهدوا عليهن } هو الخبر ، لكنّه خبر صوري وإلاّ فإنّ الخبر هو { فأمسكوهن } ، لكنّه جيء به جواباً لشرط هو متفرّع على { فإن شهدوا } ففاء { فاستشهدوا } هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب ، وفاء { فإن شهدوا } تفريعية ، وفاء { فأمسكوهن } جزائية ، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم .