قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً } ، فخراً وأشراً .
قوله تعالى : { ورئاء الناس } ، قال الزجاج : البطر : الطغيان في النعمة وترك شكرها ، والرياء : إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح .
قوله تعالى : { ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } ، نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تجادلك وتكذب رسولك ، الله فنصرك الذي وعدتني ، قالوا : لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها الله ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ، فنقيم بها ثلاثاً ، فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً ، فوافوها ، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النية ، والحسبة في نصر دينه ، ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم .
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ْ } أي : هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه ، وهذا الذي أبرزهم من ديارهم لقصد الأشر والبطر في الأرض ، وليراهم الناس ويفخروا لديهم .
والمقصود الأعظم أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل اللّه من أراد سلوكه ، { وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ْ } فلذلك أخبركم بمقاصدهم ، وحذركم أن تشبهوا بهم ، فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .
فليكن قصدكم في خروجكم وجه اللّه تعالى وإعلاء دين اللّه ، والصد عن الطرق الموصلة إلى سخط اللّه وعقابه ، وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم .
وبعد هذه التوجيهات السامية التي رسمت للمؤمنين طريق النصر ، نهاهم - سبحانه - عن التشبه بالكافرين الذين صدهم الشيطان عن السبيل الحق ، فقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين . . . عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ } المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير . خرجوا يالقيان والمغنيات والمعازف ، فلما وردوا الجحفة ، بعث خفاف الكناتى - وكان صديقا لأبى جهل - بهدايا إليه مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معى من قرايتى فعلت .
فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا . إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة . وإن كنا إنما نقاتل الناس . فوالله إن بنا على الناس لقوة . والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف فيها القيان ، فإن بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم . وحتى تسمع العرب - بمخرجنا فتهابنا آخر الآبد - .
قال المفسرون : فوردوا بدرا ، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
وقوله { بَطَراً } مصدر بطر - كفرح - ومعناه كما يقول الراغب : دهش يعترى الإِنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها ، وصرفها إلى غير وجهها .
أى أن البطر ضرب من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله - تعالى - وسيلة إلى ما لا يرضيه وه ومفعول لأجله ، أو حال ، أى : حال كوهم بطرين .
وقوله { وَرِئَآءَ } مصدر رأى ومعناه : القول أو الفعل الذي لا يقصد معه الإِخلاص ، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء .
والمعنى : كونوا أيها المؤمنون - ثابتين عند لقاء الأعداء ، ومكثرين من ذكر الله وطاعته . وصابرين في كل المواطن . . واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة { بَطَراً وَرِئَآءَ الناس } أي خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية . . حتى ينالوا الثناء منهم . .
وقوله : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } معطوف على { بَطَراً } والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة . والمراد بسبيل الله : دينه . لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح .
أى : خرجوا بطرين بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس ، وصادين إياهم عن دين الإِسلام الذي باتباعه يصلون إلى السعادة والنجاح .
وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت ، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث ، للإِشارة بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء ، وأن هذه الصفات دابهم وديدنهم ، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الإِسلام .
وقوله : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة ، لأنه - سبحانه - محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط ) .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ؛ تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر ، وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده ، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل عبودية لغير الله ، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم ، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة ، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ؛ وفي إقامة منهجه في الحياة ؛ وفي إعلاء كلمته في الأرض ؛ وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ؛ يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ؛ كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله : وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه :
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط ) .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل ، وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير ، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل : " لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم ثلاثاً ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ،
وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال : " واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع ، لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان ، وأصاب محمد [ ص ] النفير ؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم :
لا يفوته منهم شيء ، ولا يعجزه من قوتهم شيء ، وهو محيط بهم وبما يعملون .
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ، ناهيًا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم { بَطَرًا } أي : دفعا للحق ، { وَرِئَاءَ النَّاسِ } وهو : المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل - لما قيل له : إن العير قد نجا فارجعوا - فقال : لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، وننحر الجُزُر ، ونشرب الخمر ، وتعزف{[13055]} علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا ، فانعكس ذلك عليه أجمع ؛ لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام ، ورُمُوا في أطواء بدر مهانين أذلاء ، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بما جاءوا به وله ، ولهذا جازاهم على ذلك شر الجزاء لهم .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في قوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } قالوا : هم المشركون ، الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر .
وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
وهذا تَقَدّمٌ من الله جلّ ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله لا يعملوا عملاً إلا لله خاصة وطلب ما عنده لا رئاء الناس كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس وذلك أنهم أخبروا بفوت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل لهم : انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها ، فأبوا وقالوا : نأتي بدرا فنشرب بها الخمر وتعزف علينا القيان وتتحدث بنا العرب لمكانتنا فيها . فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا . كما :
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : كانت قريش قبل أن يلقاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه : إنا قد أجزنا القوم فارجعوا فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشا بالرجعة بالجحفة ، فقالوا : والله لا نرجع حتى ننزل بدرا فنقيم فيه ثلاث ليال ويرانا من غشينا من أهل الحجاز ، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا وهم الذين قال الله : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ففتح الله على رسوله وأخزى أئمة الكفر ، وشفى صدور المؤمنين منهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق في حديث ذكره ، قال : ثني محمد بن مسلم وعاصم بن عمرو ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، عن ابن عباس ، قال : لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كلّ عام فنقيم عليه ثلاثا ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمور ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا
قال ابن حميد : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ : أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا : لا نرجع حتى نأتي بدرا وننحر بها الجزر ونسقي بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أي لا يكوننّ أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم ، وموازرة نبيكم أي لا تعملوا إلا لله ولا تطلبوا غيره .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : أصحاب بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . قال ابن جريج : وقال عبد الله بن كثير : هم مشركو قريش ، وذلك خروجهم إلى بدر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ يعني المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : هم قريش وأبو جهل وأصحابه الذين خرجوا يوم بدر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل لهم يومئذ : ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم قالوا : لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال يومئذ : «اللّهُم إن قُرَيْشا أقْبَلَتْ بِفَخْرِها وخُيَلائها لِتُحادّكَ وَرَسُولكَ » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر المشركين وما يطعمون على المياه ، فقال : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا قال : هم المشركون خرجوا إلى بدر أشرا وبطرا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .
فتأويل الكلام إذن : ولا تكونوا أيها المؤمنون بالله ورسوله في العمل بالرياء والسمعة وترك إخلاص العمل لله واحتساب الأجر فيه ، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرا ومراءاة الناس بزيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام بقتالهم إياهم وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله ، والله بما يعملون من الرياء والصدّ عن سبيل الله وغير ذلك من أفعالهم محيط ، يقول : عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه منه شيء وذلك أن الأشياء كلها له متجلية ، لا يعزب عنه منها شيء ، فهو لهم بها معاقب وعليها معذّب .
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير . { بطرا } فخرا وأشرا . { ورئاء الناس } ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح ، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده . { ويصدّون عن سبيل الله } معطوف على بطراً إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر . { والله بما يعملون محيط } فيجازيكم عليه .
جملة : { ولا تكونوا } معطوفة على { ولا تنازعوا } [ الأنفال : 46 ] عطف نهي على نهي .
ويصحّ أن تكون معطوفة على جملة { فاثبتوا } [ الأنفال : 45 ] عطف نهي على أمر ، إكمالاً لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء ، بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر ، وأن يتجنّبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد .
وجِيء في نهيهم عن البطَر والرئَاء بطريقة النهي عن التشبّه بالمشركين إدماجاً للتشنيع بالمشركين وأحوالِهم ، وتَكريهاً للمسلمين تلكَ الأحوالَ ، لأنّ الأحوال الذميمة تتّضح مذمتها ، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند آخرين ، وذلك أبلغ في النهي ، وأكشف لقبْح المنهي عنه . ونظيره قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [ الأنفال : 21 ] وقد تقدّم آنفاً . فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبَدْر إذْ خرجوا بطَراً ورئاء الناس ، لأنّ حقّ كلّ مسلم أن يريد بكلّ قول وعمل وجه الله ، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية .
والموصول مراد به جماعة خاصّة ، وهم أبو جهل وأصحابه ، وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر ، فإنّهم خرجوا من مكة بقصد حماية غيرهم فلمّا بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان ، وهو كبير العير يخبرهم أنّ العِير قد سلمت ، فقال أبو جهل : « لا نرجع حتّى نَقدمَ بدراً نَشْرب بها وتعزف علينا القيان ونطعِم من حضَرَنا من العرب حتّى يتسامع العرب بأنّنا غلبنا محمداً وأصحابه » . فعبّر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر ، بالخروج لأنّه تكملة لخروجهم من مكة .
وانتصب { بطراً ورئاء الناس } على الحالية ، أي بَطِرينَ مرائين ، ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكّن الصفتين منهم لأنّ البطَر والريَاء خلقان من خلقهم .
و« البطر » إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة ، والاستكبار والفخر بها ، فالمشركون لمّا خرجوا من الجحفة ، خرجوا عُجباً بما هم فيه من القوة والجِدّة .
« والرئاء » بهمزتين أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة . ووزنه فِعَال مصدر رَاءَىَ فَاعَلَ من الرؤية ويقال : مرَاآة ، وصيغة المفاعلة فيه مبالغة ، أي بالغ في إراءة الناس عمله محبَّة أن يروه ليفخر عليهم .
و { سبيل الله } الطريق الموصلة إليه ، وهو الإسلام ، شبّه الدين في إبلاغه إلى رضى الله تعالى ، بالسبيل الموصّل إلى بيت سَيِّد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه .
وجيء في { يصدون } بصيغة الفعل المضارع للدلالة على حدوثِ وتجدّد صدّهم الناسَ عن سبيل الله ، وأنّهم حين خرجوا صادّين عن سبيل الله ومكرّرين ذلك ومجدّدينه . وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة ، وأمّا التجدّد فمستفاد من المضارعية ولا يَجعل الحال مقدَّرة .
وقوله : { والله بما يعملون محيط } تذكير للمسلمين بصريحه ، ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي ، لأنّ إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى ، ويلزمه أنّه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليمُ القدير مَن اعتدى على حُرمه ، والجملة حال من ضمير { الذين خرجوا } [ الأنفال : 47 ] .
وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى مجاز عقلي ، لأنّ المحيط هو علم الله تعالى فَإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز .