تحدثت في بدايتها عن إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعن إنكار الكفار أن يجيء رسول منهم ، واستبعادهم البعث بعد أن يصيروا ترابا ، وعرضت للأدلة الكونية الدالة على أن الله لا يعجزه أن يبعث الناس بعد موتهم ، وهو الذي خلقهم أولا ويعلم ما توسوس به نفوسهم ، وأحصى أعمالهم وأقوالهم في كتاب دقيق الحفظ ، وأبانت أن محاولة الكفار في يوم القيامة التنصل من الكفر الذي كان في الدنيا بإلقاء التبعة على قرنائهم من الشياطين لا تجديهم نفعا . إذ ينتهي الجدال بينهم بإلقائهم جميعا في النار . في حين يتفضل الله على المؤمنين بالنعيم الدائم في الجنة . ثم أنهت السورة حديثها بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم ، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم إلى الثبات على عبادة الله ، وتأكيد أمر البعث ، وتسليته صلى الله عليه وسلم بأنه مذكر للمؤمنين ، وليس بمسيطر على الكافرين .
1 - ق : حرف من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآن الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدي وتنبيه الأذهان ، أُقسم بالقرآن ذي الكرامة والمجد والشرف : إنا أرسلناك - يا محمد - لتنذر الناس به ، فلم يؤمن أهل مكة ، بل عجبوا أن جاءهم رسول من جنسهم يُنذرهم بالبعث ، فقال الكافرون : هذا شيء منكر عجيب .
قوله عز وجل : { ق } قال ابن عباس : هو قسم ، وقيل : هو اسم للسورة ، وقيل : هو اسم من أسماء القرآن . وقال القرظي : هو مفتاح اسمه القدير ، والقادر والقاهر والقريب والقابض . وقال عكرمة والضحاك : هو جبل يحيط بالأرض من زمردة خضراء ، منه خضرة السماء والسماء مقببة عليه ، وعليه كتفاها ، ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة . وقيل : معناه قضي الأمر ، أو قضي ما هو كائن ، كما قالوا في حم . { والقرآن المجيد } الشريف الكريم على الله ، الكثير الخير .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات . والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها ، وأحق كلام يوصف بهذا ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب لكمال اتباعه ، و [ سرعة ] الانقياد له ، وشكر الله على المنة به .
1- سورة " ق " هي السورة الخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد " المرسلات " .
ويبدو أن نزولها كان في أوائل العهد المكي ، إذ من يراجع ترتيب السور على حسب النزول يرى أنها لم يسبقها سوى اثنتين وثلاثين سورة ، ومعظم السور التي سبقتها كانت من الجزء الأخير من القرآن الكريم( {[1]} ) .
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس وأربعون آية ، وتسمى –أيضا- بسورة " الباسقات " .
2- وقد ذكر الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره لها جملة من الأحاديث في فضلها ، منها ما رواه مسلم وأهل السنن ، عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسورة " ق " وبسورة [ اقتربت الساعة . . . ] .
وروى الإمام أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت [ ق والقرآن المجيد ] إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة إذا خطب الناس .
ثم قال ابن كثير : والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب . . ( {[2]} ) .
3- والحق ، أن المتأمل في هذه السورة الكريمة يراها قد اشتملت على ما ذكره الإمام ابن كثير ، بأسلوب بليغ بديع .
فهي تبدأ بالثناء على القرآن الكريم ، ثم تذكر دعاوي المشركين وترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ثم توبخهم على عدم تفكرهم في أحوال هذا الكون الزاخر بالآيات والكائنات الدالة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته .
قال –تعالى- : [ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم ، كيف بنيناها وزيناها ، وما لها من فروج . والأرض مددناها ، وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ] .
4- ثم تذكرهم –أيضا- بسوء عاقبة المكذبين من قبلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة . .
ثم تتبع ذلك بتذكيرهم بعلم الله –تعالى- الشامل لكل شيء ، وبسكرات الموت وما يتبعها من بعث وحساب ، وثواب وعقاب . .
قال –تعالى- : [ وجاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد . ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك عطاءك ، فبصرك اليوم حديد ] .
5- ثم تختتم السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وترشده إلى العلاج الذي يعينه على مداومة الصبر ، كما تحكي له أحوالهم يوم القيامة ليزداد يقينا على يقينه ، وتأمره بالمواظبة على تبليغهم ، بما أمره الله –تعالى- بتبليغه .
لنستمع إلى قوله –تعالى- : [ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ، ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير .
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ] .
وهكذا تطوف بنا السورة الكريمة في أعماق هذا الكون ، وفي أعماق النفس الإنسانية ، منذ ولادتها ، إلى بعثها ، إلى حسابها ، إلى جزائها . . وذلك كله بأسلوب مؤثر بديع ، يشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
سورة " ق " من السور القرآنية ، التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معنى هذه الحروف ، أنها جئ بها على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن . فكأن الله - تعالى - يقول لهؤلاء المعارضين فى أن القرآن من عند الله : ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم .
فإن كنتم فى شك فى كونه منزلا من عند الله - تعالى - فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله .
فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - سبحانه - .
وهذا الرأى وهو كون " ق " من الحروف الهجائية ، هو الذى تطمئن إليه ، وهناك أقوال أخرى فى معنى هذا الحرف ، تركناها لضعفها كقول بعضهم إن " ق " اسم جبل محيط بجميع الأرض . . وهى أقوال لم يقم دليل نقلى أو عقلى على صحتها .
قال ابن كثير : وقد روى عن بعض السلف ، أنهم قالوا " ق " جبل محيط بالأرض ، يقال له جبل " قل " وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى إسرائيل أخذها عنهم بعض الناس . .
والواو فى قوله - تعالى - : { والقرآن المجيد } للقسم ، والمقسم به القرآن الكريم ، وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ، وهو استبعادهم لعبثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم للبعث والحساب . .
وقوله : { المجيد } صفة للقرآن . أى : ذى المجد والشرف وكثرة الخير .
ولفظ المجيد مأخوذ من المجد ، بمعنى السعة والكرم ، وأصله من مجدت الإِبل وأمجدت ، إذا وقعت فى مرعى مخصب ، واسع ، الجنبات ، كثير الأعشاب .
والمعنى : أقسم بالقرآن ذى المجد والشرف ، وذى الخير الوفير الذى يجد فيه كل طالب مقصوده ، إنك - أيها الرسول الكريم - لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق والحساب حق ، والجزاء حق . . ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك .
كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ، في الجماعات الحافلة . . وإن لها لشأنا . .
إنها سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها . تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها . تتعقبها برقابة الله ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب . وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة . تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا . فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا . كل نفس معدود . وكل هاجسة معلومة . وكل لفظ مكتوب . وكل حركة محسوبة . والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح . ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة . ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ؛ وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب !
وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر . وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس . وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع . . ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) . .
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير .
وتبدأ السورة بالقسم . القسم بالحرف : ( قاف )وبالقرآن المجيد ، المؤلف من مثل هذا الحرف . بل إنه هو أول حرف في لفظ " قرآن " . .
ولا يذكر المقسم عليه . فهو قسم في ابتداء الكلام ، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام . فالأمر جلل ، والله يبدأ الحديث بالقسم ، فهو أمر إذن له خطر . ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء . إذ يضرب بعده بحرف( بل )عن المقسم عليه - بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب - ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج :
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ، وقيل : من الحجرات . وأما ما يقوله العامة{[1]} : إنه من( عَمّ ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين{[2]} فيما نعلم . والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه ، باب " تحزيب القرآن " ثم قال :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا قُرَّان بن تمام ، ( ح ) وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد سليمان بن حبان - وهذا لفظه - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده - قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة - ثم اتفقا . قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف ، قال : فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قُبة له - قال مسَدَّد : وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف ، قال : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[3]} كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا - قال أبو سعيد : قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام - فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ، ثم يقول : لا سواء {[4]} وكنا مستضعفين مستذلين - قال مُسدَّد : بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا . فلما كانت ليلة أبطأ{[5]} عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا : لقد أبطأت عنا {[6]} الليلة ! قال : " إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أجيء حتى أتمه " . قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده .
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، به . ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، هو ابن{[7]} يعلى الطائفي به {[8]} .
إذا علم هذا ، فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة ، فالتي بعدهن سورة " ق " . بيانه : ثلاث : البقرة ، وآل عمران ، والنساء . وخمس : المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة . وسبع : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل . وتسع : سبحان ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان . وإحدى عشرة : الشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والم ، السجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، و يس . وثلاث عشرة : الصافات ، وص ، والزمر ، وغافر ، و حم ، السجدة ، وحم عسق ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، والقتال ، والفتح ، والحجرات . ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة ، رضي الله عنهم . فتعين أن أوله سورة " ق " وهو الذي قلناه{[9]} ، ولله الحمد والمنة .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك ، عن ضَمْرة بن سعيد ، عن عُبَيد الله {[10]} بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال : بقاف ، واقتربت .
ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة ، من حديث مالك ، به {[11]} . وفي رواية لمسلم عن فليح{[12]} عن ضمرة ، عن عبيد الله{[13]} ، عن أبي واقد قال : سألني عمر ، فذكره{[14]} .
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد{[15]} بن زُرَارة ، عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان تَنُّورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين ، أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .
رواه مسلم [ أيضا ]{[16]} من حديث ابن إسحاق ، به {[17]} .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب {[18]} ، عن عبد الله بن محمد بن معن ، عن ابنة الحارث بن النعمان قالت : ما حفظت " ق " إلا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة . قالت : وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا .
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ، من حديث شعبة ، به {[19]} .
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .
{ ق } : حرف من حروف الهجاء المذكورة {[27267]} في أوائل السور ، كقوله : ( ص ، ن ، الم ، حم ، طس ) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره . وقد أسلفنا الكلام عليها ، في أول " سورة البقرة " بما أغنى عن إعادته .
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } : جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له جبل قاف . وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما{[27268]} لا يصدق ولا يكذب . وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افترى في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم الخمور{[27269]} ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته ! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : " وحدثوا عن بني إسرائيل ، ولا حرج " فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل - والله أعلم .
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمه الله ، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس فقال :
حدثنا أبي قال : حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له " ق " السماء الدنيا مرفوعة عليه . ثم خلق الله من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات . ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطًا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له " ق " السماء الثانية مرفوعة عليه ، حتى عد سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سموات . قال : وذلك قوله : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] .
فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ق } قال : هو اسم من أسماء الله ، عز وجل .
والذي ثبت عن مجاهد : أنه حرف من حروف الهجاء ، كقوله : ( ص ، ن ، حم ، طس ، الم ) ونحو ذلك . فهذه تُبْعِد ما تقدم عن ابن عباس .
وقيل : المراد " قضِي الأمر واللهِ " ، وأن قوله : { ق } دلت على المحذوف من بقية الكلم{[27270]} كقول الشاعر :
وفي هذا التفسير نظر ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ .
وقوله : { وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي : الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم متلقى لفظًا ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 1 ، 2 ] ،
وهكذا قال هاهنا : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } .
اختلف أهل التأويل في قوله : ق ، فقال بعضهم : هو اسم من أسماء الله تعالى أُقسم به ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : ق و ن وأشباه هذا ، فإنه قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ق قال : اسم من أسماء القرآن .
وقال آخرون : ق اسم الجبل المحيط بالأرض ، وقد تقدّم بياننا في تأويل حروف المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وَالقُرآنِ المَجِيدِ يقول : والقرآن الكريم . كما :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ق والقرآن المَجِيدِ قال : الكريم .
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم ، فقال بعض نحوّيي البصرة ق والقُرآنِ المَجِيدِ قسم على قوله : قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وقال بعض نحوّيي أهل الكوفة : فيها المعنى الذي أقسم به ، وقال : ذكر أنها قضى والله ، وقال : يقال : إن قاف جبل محيط بالأرض ، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع : أي هو قاف والله قال : وكان ينبغي لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء قال : ولعلّ القاف وحدها ذكرت من اسمه ، كما قال الشاعر :
*** قُلْت لهَا قِفِي لَنَا قالَتْ قافْ ***
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف : أي إني واقفة .
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب ، لأنه لا يعرف في أجوبة الإيمان قد ، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد الحروف الأربعة : اللام ، وإن ، وما ، ولا ، أو بترك جوابها فيكون ساقطا .
هي مكية بإجماع من المتأولين{[1]} ، وروى أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( من قرأ سورة ق هوّن الله عليه الموت وسكراته ){[2]}
قال ابن عباس : { ق } اسم من أسماء القرآن . وقال أيضاً اسم من أسماء الله تعالى . وقال قتادة والشعبي : هو اسم السورة ، وقال يزيد وعكرمة ومجاهد والضحاك : هم اسم الجبل المحيط بالدنيا ، وهو فيما يزعمون من زمردة خضراء ، منها خضرة السماء وخضرة البحر . و { المجيد } الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلوة .
و : { ق } على هذه الأقوال : مقسم به وب { القرآن المجيد } ، وجواب القسم منتظر . واختلف الناس فيه ، فقال ابن كيسان جوابه : { ما يلفظ من قول }{[10505]} [ ق : 18 ] ، وقيل الجواب : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب }{[10506]} [ ق : 37 ] وقال الزهراوي عن سعيد الأخفش الجواب : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } وضعفه النحاس{[10507]} ، وقال الكوفيون من النحاة الجواب : { بل عجبوا } ، والمعنى : لقد عجبوا . قال منذر بن سعيد : إن جواب القسم في قوله : { ما يبدل القول لدي }{[10508]} [ ق : 29 ] ، وفي هذه الأقوال تكلف وتحكم على اللسان .
وقال الزجاج والمبرد والأخفش : الجواب مقدر تقديره : { ق } ، { والقرآن المجيد } لتبعثن ، وهذا قول حسن وأحسن منه : أن يكون الجواب الذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، كأنه قال . { ق والقرآن المجيد } ما ردوا أمرك بحجة ، أو ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدر الزجاج ، لأنك إذا قلت الجواب : لتبعثن فلا بد بعد ذلك أن يقدر خبر عنه يقع الإضراب ، وهذا الذي جعلناه جواباً وجاء المقدر أخصر . وقال جماعة من المفسرين في قوله : { ق } إنه حرف دال على الكلمة ، على نحو قول الشاعر : [ الرجز ]
قلت لها قفي فقالت قاف . . . {[10509]}
واختلفوا بعد ، فقال القرطبي : هو دال على أسماء الله تعالى هي : قادر ، وقاهر ، وقريب ، وقاض ، وقابض ، وقيل المعنى : قضي الأمر من رسالتك ونحوه ، { والقرآن المجيد } ، فجواب القسم في الكلام الذي يدل عليه قاف . وقال قوم المعنى : قف عند أمرنا . وقيل المعنى : قهر هؤلاء الكفرة ، وهذا أيضاً وقع عليه القسم ويحتمل أن يكون المعنى : قيامهم من القبور حق ، { والقرآن المجيد } ، فيكون أول السورة من المعنى الذي اطرد بعد ، وعلى هذه الأقوال فثم كلام مضمر عنه وقع الإضراب ، كأنه قال : ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما يليق مظهراً .
وقرأ جمهور من القراء { ق } بسكون الفاء . قال أبو حاتم : ولا يجوز غيرها إلا جواز سوء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة تحسن مع أن يكون { ق } حرفاً دالاً على كلمة . وقرأ الثقفي وعيسى : قاف بفتح الفاء ، وهذه تحسن مع القول بأنها اسم للقرآن أو لله تعالى ، وكذلك قرأ الحسن وابن أبي إسحاق بكسر الفاء ، وهي التي في رتبة التي قبلها في أن الحركة للالتقاء وفي أنها اسم للقرآن .
و { المجيد } الكريم الأوصاف الكثير الخير{[10510]} .
سميت في عصر الصحابة { سورة ق } ينطق بحروف : قاف ، بقاف ، وألف ، وفاء .
فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح سورة { ق والقرآن المجيد } . وربما قال : { ق } ويعني في الركعة الأولى .
وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت { ق والقرآن المجيد } إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم على المنبر إذ خطب الناس .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب{ قاف والقرآن المجيد } ، هكذا رسم قاف ثلاث أحرف ، وقوله { في الفجر } يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته .
وفي الموطأ ومسلم أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر? فقال : كان يقرأ فيهما ب{ قاف } هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و{ القرآن المجيد } و{ اقتربت الساعة وانشق القمر } .
وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص . و ق . ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى .
وفي الإتقان أنها تسمى سورة { الباسقات } . هكذا بلام التعريف ، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف ، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله { النخل باسقات لها طلع نضيد } .
وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين .
وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك : استثناء آية { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أنها نزلت في اليهود ، يعني في الرد عليهم إذ قالوا : إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت ، يعني أم مقالة اليهود سمعت بالمدينة ، يعني : وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها .
وهذا المعنى وان كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله صلى الله عليه وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار . وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء ، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات ومطويات بيمينه } فإنها نزلت بمكة .
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال : إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية . والمقصود من تلاوتها هو قوله { وما قدروا الله حق قدره } . والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله .
وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة لا أقسم بهذا البلد .
وقد أجمع العادون على عد آيها خمسا وأربعين .
ثانيها أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر ، وثالثها : الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها ، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت .
الرابع : تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم ، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك .
الخامس : الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد ، وذكر هول يوم الحساب .
السادس : وعد المؤمنين بنعيم الآخرة .
السابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن .
الثامن : الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن .
التاسع : إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس .
القول فيه نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور . فهو حرف من حروف التهجّي وقد رسموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يُتَهجى بها في المكتب ، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحَرف المعروف ، أي ينْطِقون بقاففٍ بعدها ألف ، بعده فاء . وقد أجمع من يعتدّ به من القراء على النطق به ساكِنَ الآخِر سكون هجاء في الوصل والوقِف .
ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله : { ق } اسم جبل عظيم محيط بالأرض . وفي رواية عنه إنه اسم لكل واحد من جبال سبعة محيطة بالأرضين السبع واحداً وراء واحد كما أن الأرضين السبع أرض وراء أرض . أي فهو اسم جنس انحصرت أفراده في سبعة ، وأطالوا في وصف ذلك بما أملاه عليهم الخيال المشفوع بقلة التثبت فيما يروونه للإغراب ، وذلك من الأوهام المخلوطة ببعض أقوال قدماء المشرقيين وبسوء فهم البعض في علم جغرافية الأرض وتخيلهم إياها رقاعاً مسطحة ذات تقاسيم يحيط بكل قسم منها ما يفصله عن القسم الآخر من بحار وجبال ، وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره لولا أن كثيراً من المفسرين ذكروه .
ومن العجب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن { ألم } [ البقرة : 1 ] ، يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجّي مثل { آلم } [ العنكبوت : 1 ] و { المص } [ الأعراف : 1 ] و { كهيعص } [ مريم : 1 ] ولو أريد الجبل الموهوم لكتب قاف ثلاثة حروف كما تكتب دَوَالُّ الأشياء مثل عين : اسم الجارحة ، وغينش : مصدر غان عليه ، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجّي كما لا يخفى .
قَسَم بالقرآن ، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسِم فكان التعظيم من لوازم القسَم . وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف { القرآن } ب { المجيد } فالمجيد المتصف بقوة المجْد . والمجدُ ويقال المجادة : الشرف الكامل وكرم النوع .
وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده . وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغَه الله للناس من أنواع الكلام الدالّ على مراد الله تعالى إذْ أوْجدَ ألفاظَه وتراكيبه وصورةَ نظمه بقدرته دون واسطة ، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبّرون بكلامهم عما يُلقَى إليهم من الوحي .
ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة ، ومثل ما أُوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القُدُسيّ ، فإن القرآن يفوق ذلك كله لمّا جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزاً لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه .
ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها ، وأيضاً بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما يُنسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضُه .
وجواب القَسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداءُ السورة بحرف { ق } المشعر بالنداء على عجزهم عنْ معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك ، أو يدل عليه الإضراب في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } .
والتقدير : والقرآنِ المجيد إنك لرسول الله بالحق ، كما صرح به في قوله : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [ يس : 1 4 ] . أو يقدر الجواب : إنه لتنزيل من ربّ العالمين ، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو { حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [ الأحزاب : 1 3 ] ونحو ذلك . والإضراب الانتقالي يقتضي كلاماً منتقلاً منه والقَسم بدون جواب لا يعتبر كلاماً تاماً فتعين أن يقدِّر السامع جواباً تتم به الفائدة يدل عليه الكلام .
وهذا من إيجاز الحذف وحسَّنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه ، أي عدِّ عما تريد تقديره من جواب وانتقِلْ إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القَسَم كقول القائل : دَعْ ذا ، وقول امرىء القيس :
فدع ذا وسَلِّ الهمَّ عنك بجسرة *** ذَمُول إذَا صَام النهارُ وهجَّرا
فدع ذَا ولكن رُبّ أرض مُتيهة *** قطعتُ بحُرْجُوج إذا الليل أظلما
وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى : { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } في سورة ص ( 2 ) .