قوله عز وجل :{ فصل لربك وانحر } قال محمد بن كعب : إن أناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل . وقال عكرمة وعطاء وقتادة : { فصل لربك } صلاة العيد ويوم النحر ، وانحر نسكك . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد : فصل الصلوات المفروضة بجمع ، { وانحر } البدن بمنىً . وروي عن أبي عن ابن عباس قال : { فصل لربك وانحر } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر .
ولما ذكر منته عليه ، أمره بشكرها فقال : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر ؛ لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات .
ولأن الصلاة تتضمن الخضوع [ في ] القلب والجوارح لله ، وتنقلها في أنواع العبودية ، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر ، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد بالصلاة : المداومة عليها .
أى : ما دمنا قد أعطيناك هذه النعم الجزيلة ، فداوم على شكرك لنا ، بأن تواظب على أداء الصلاة أداء تاما ، وبأن تجعلها خالصة لربك وخالقك ، وبأن تواظب - أيضاً - على نحرك الإِبل تقرباً إلى ربك . كما قال - سبحانه - { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين . لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين }
بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة ، على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون ، وجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله : ( فصل لربك وانحر ) . . غير ملق بالا إلى شرك المشركين ، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح ، وتحريم ما أهل به لغير الله ، وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها ، وكل ظل من ظلالها ؛ كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره ، وفي كل مكامنه ؛ ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير ، أم ظهر في العبادة ، أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن ، والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ ، ويخلصها من شوائب الشرك جميعا ، ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة ناصعة ، كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .
وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي : كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك النهرُ -الذي تقدم صفته- فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له . كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 ، 163 ] قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : يعني بذلك نحر البُدْن ونحوها . وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والربيع ، وعطاء الخراساني ، والحكم ، وإسماعيل{[30627]} بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف . وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية [ الأنعام : 121 ] .
وقيل : المراد بقوله : { وَانْحَرْ } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر . يروى هذا عن علي ، ولا يصح . وعن الشعبي مثله .
وعن أبي جعفر الباقر : { وَانْحَرْ } يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة .
وقيل : { وَانْحَرْ } أي : استقبل بنحرك القبلة . ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي{[30628]} - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال رسول الله : " يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ " فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ارفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة .
وهكذا{[30629]} رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم ، به . {[30630]}
وعن عطاء الخراساني : { وَانْحَرْ } أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال . رواه ابن أبي حاتم .
[ كل هذه الأقوال غريبة جدا ]{[30631]} والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد{[30632]} ثم ينحر نسكه ، ويقول : " من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك . ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله ، إني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم . قال : " شاتك شاة لحم " . قال : فإن عندي عناقا هي أحب إليَّ من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : " تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك " . {[30633]}
قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة{[30634]} ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كِفَاء له ، وخصك به . {[30635]}
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمد بن كعب القرظي ، وعطاء .
وقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب ، ومعنى قوله : { وانْحَرْ } فقال بعضهم : حضّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة ، وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطّفاويّ ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثني يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن عاصم الجحدريّ ، عن عقبة بن ظهير ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سَلَمة ، عن عاصم الجَحْدَريّ ، عن عقبة بن ظبيان ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليد على اليد في الصلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الجَحْدَريّ ، عن عُقْبة بن ظَهِير ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره .
قال : ثنا مهران ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبيّ ، مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عاصم الجَحْدريّ ، عن عقبة بن ظهير ، عن عليّ رضي الله عنه : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، يقال : حدثنا عوف ، عن أبي القَمُوص ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليد على اليد في الصلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو صالح الخُراسانيّ ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم الجَحْدريّ ، عن أبيه ، عن عقبة بن ظبيان ، أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال في قول الله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده الأيسر ، ثم وضعهما على صدره .
وقال آخرون : بل عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } : الصلاة المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } أن يرفع يديه إلى النحر ، عند افتتاح الصلاة والدخول فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } الصلاة ، { وانحر } : يرفع يديه أوّل ما يُكبَر في الافتتاح .
وقال آخرون : عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } : نحر البُدْن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم وهارون بن المُغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، ونحر البُدْن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير وحجّاج ، أنهما قالا في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الغداة بجَمْع ، ونحر البُدن بمِنَى .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن قطر ، عن عطاء : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الفجر ، وانحر البُدْن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، والنحر : النّسُك والذبح يوم الأضحى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الفجر .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : صلّ يوم النحر صلاة العيد ، وانحر نُسُكَك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المُغيرة ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن أنس بن مالك ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينحَر قبل أن يصلي ، فأُمر أن يصليَ ثم ينحر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة : فصلّ الصلاة ، وانحر النّسُك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ثابت بن أبي صفية ، عن أبي جعفر { فَصَلّ لِرَبّكَ } قال : الصلاة . وقال عكرِمة : الصلاة ونحر النّسك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : إذا صليت يوم الأضحى فانحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا قطر ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : تصلي وتنحر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : اذبح .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الذبح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر البُدن ، والصلاة يوم النحر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الأضحى ، والنحر : نحر البُدن .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : مناحر البُدن بِمِنَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر النسك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يقول : اذبح يوم النحر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر البُدْن .
وقال آخرون : قيل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوما كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغيره ، فقيل له : اجعل صلاتَك ونحرَك لله ؛ إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الاَية : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يقول : إن ناسا كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فإذا أعطيناك الكوثر يا محمد ، فلا تكن صلاتك ونحرك إلاّ لي .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الاَية يوم الحُدَيْبية ، حين حُصِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وصُدّوا عن البيت ، فأمره الله أن يصلي ، وينحر البُدْن ، وينصرف ، ففعل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، قال : ثني أبو معاوية البَجَلِيّ ، عن سعيد بن جُبير أنه قال : كانت هذه الآية ، يعني قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يوم الحديبية ، أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : انحر وارجع ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطب خطبة الفطر والنحر ، ثم ركع ركعتين ، ثم انصرف إلى البُدن فنحرها ، فذلك حين يقول : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فصلّ وادع ربّك وَسَلْه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلّ لربك وسَلْ .
وكان بعض أهل العربية يتأوّل قوله : { وَانْحَرْ } واستقبل القبلة بنحرك . وذُكر أنه سمع بعض العرب يقول : منازلهم تتناحَر : أي هذا بنحر هذا : أي قبالته . وذُكر أن بعض بني أسد أنشده :
أبا حَكَمٍ هَلْ أنْتَ عَمّ مُجَالِدٍ *** وَسَيّدُ أهْلِ الأَبْطَحِ المُتَناحِرِ ؟
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتَك كلّها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كُفْء له ، وخصك به ، من إعطائه إياك الكوثر .
وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته ، وإنعامه عليه بالكوثر ، ثم أتبع ذلك قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } ، فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له ، والنحر على الشكر له ، على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه ، بإعطائه إياه الكوثَر ، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض ، وبعض النحر دون بعض ، وجه ؛ إذ كان حثا على الشكر على النّعم .
فتأويل الكلام إذن : إنا أعطيناك يا محمد الكوثر ، إنعاما منا عليك به ، وتكرمة منا لك ، فأخلص لربك العبادة ، وأفرد له صلاتك ونُسُكَك ، خلافا لما يفعله من كفر به ، وعبد غيره ، ونحر للأوثان .
{ فصل لربك } فدم على الصلاة خالصا لوجه الله تعالى خلاف الساهي عنها المرائي فيها ، شكرا لإنعامه ، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر ، وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب ، وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون ، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد ، والنحر بالتضحية .
وقوله تعالى : { فصلّ لربك وانحر } أمر بالصلاة على العموم ، ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها ، والنحر : نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس ، فكأنه قال : ليكن شغلك هذين ، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد ، وقال أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقال قتادة والقرطبي وغيره : في الآية طعن على كفار مكة ، أي إنهم يصلون لغير الله مكاء{[12007]} وتصدية ، وينحرون للأصنام ونحوه ، فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط مستقيم . وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح قريش . قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : صل وانحر الهدي ، وعلى هذا تكون الآية من المدني . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : معنى الآية : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة ، فالنحر على هذين ليس بمصدر نحر ؛ بل هو الصدر . وقال آخرون المعنى : ارفع يدك في استفتاح صلاتك عند نحرك .