39- والذين جحدوا وأنكروا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وأن أعمالهم الحسنة ستفيدهم يوم القيامة ، ولكنهم مخطئون في ظنهم هذا ، فمثل أعمالهم في بطلانها وعدم جدواها كمثل اللمعان الذي يحدث من سقوط أشعة الشمس وقت الظهيرة علي أرض مستوية في بيداء ، فيظنه العطشان ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً نافعاً كما كان يظنه ، كذلك أعمال الكفار يوم الجزاء ستكون هباء منثوراً ، وسيجد الكافر عقاب الله ينتظره واقعاً تاماً لا نقص فيه ، إن حساب الله آت لا ريب فيه ، وهو سبحانه سريع في حسابه لا يبطئ ولا يخطئ{[149]} .
ثم ضرب لأعمال الكفار مثلاً ، فقال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } السراب : الشعاع الذي يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري ، يشبه الماء الجاري على الأرض يظنه من رآه ماء ، فإذا قرب منه انفش فلم ير شيئاً ، والآل ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة يرفع فيه الشخوص يرى فيه الصغير كبيراً والقصير طويلاً ، والرقراق يكون بالعشايا ، وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب . والقيعة : جمع القاع وهو المنبسط الواسع من الأرض ، وفيه يكون السراب ، { يحسبه الظمآن } أي : يتوهمه العطشان ، { ماءً حتى إذا جاءه } أي : جاء ما قدر رأى أنه ماء . وقيل : جاء موضع السراب ، { لم يجده شيئاً } على ما قدره وحسبه ، كذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه ، فإذا أتاه ملك الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى منه شيئاً ولا نفعه . { ووجد الله عنده } أي : عند عمله ، أي : وجد الله بالمرصاد . وقيل : قدم على الله { فوفاه حسابه } أي جزاء عمله . { والله سريع الحساب }
{ 39 - 40 } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }
هذان مثلان ، ضربهما الله لأعمال الكفار في بطلانها وذهابها سدى وتحسر عامليها منها فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بربهم وكذبوا رسله { أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } أي : بقاع ، لا شجر فيه ولا نبت .
{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } شديد العطش ، الذي يتوهم ما لا يتوهم غيره ، بسبب ما معه من العطش ، وهذا حسبان باطل ، فيقصده ليزيل ظمأه ، { حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } فندم ندما شديدا ، وازداد ما به من الظمأ ، بسبب انقطاع رجائه ، كذلك أعمال الكفار ، بمنزلة السراب ، ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور ، أعمالا نافعة ، فيغره صورتها ، ويخلبه خيالها ، ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه ، وهو أيضا محتاج إليها بل مضطر إليها ، كاحتياج الظمآن للماء ، حتى إذ قدم على أعماله يوم الجزاء ، وجدها ضائعة ، ولم يجدها شيئا ، والحال إنه لم يذهب ، لا له ولا عليه ، بل { وجد اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } لم يخف عليه من عمله نقير ولا قطمير ، ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا ، { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فلا يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد ، فإنه لا بد من إتيانه ، ومثلها الله بالسراب الذي بقيعة ، أي : لا شجر فيه ولا نبات ، وهذا مثال لقلوبهم ، لا خير فيها ولا بر ، فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع ، وهو الكفر .
وبعد تلك الصورة المشرقة التى بينها - سبحانه - لمن هداهم لنوره ، أتبع ذلك بضرب مثلين لأعمال الكفار ، فقال - تعالى - : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ . . . } .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ } عطف على ما قبله ، من باب عطف القصة على القصة ، أو على مقدر ينساق إليه ما قبله ، كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة .
والمراد بأعمالهم هنا : الأعمال الصالحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا كالإحسان إلى الفقراء ، وصلة الأرحام وما يشبه ذلك .
والسراب : هو الشعاع الذى يتراءى للناظر من بعيد كأنه ماء . ويكون ذلك فى وسط النهار عند اشتداد الحر ، فى الأماكن الواسعة ، وسمى سرابا لأنه يرى من بعيد يتسرب فوق الأرض كأنه ماء ، مع أنه ليس بماء ولا غيره .
والباء فى قوله { بِقِيعَةٍ } بمعنى فى . والقيعة : جمع قاع وهو ما انبسط واتسع من الأرض . دون أن يكون فيه زرع ، وفوقه يتراءى السراب . والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، صفة للسراب .
أى : والذين كفروا بالحق لما جاءهم : أعمالهم الصالحة فى الدنيا التى يتوقعون الخير من ورائها ، تكون بالنسبة لهم يوم القيامة ، كسراب كائن فى صحراء واسعة ، " يحسبه الظمآن ماء " .
أى : يظن الشخص الذى اشتد به العطش أنه ماء .
وخص - سبحانه - هذا الحسبان بالظمآن ، مع أن كل من يراه يظنه ماء لأن هذا الذى اشتد به العطش أشد حرصا على طلبه من غيره ، فالتشبيه به أتم وأكمل .
و " حتى " فى قوله - سبحانه - : { حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } غاية لمحذوف ، والتقدير : هذا السراب يظنه الظمآن ماء فيسرع نحوه ، حتى إذا ما وصل إليه ، لم يجد ما حسبه ماء وعلق عليه آماله شيئا أصلا ، لا ماء ولا غيره .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد شبه ما يعمله الكافرون من أعمال البر فى الدنيا ، التى يظنونها نافعة لهم - شبه هذه الأعمال من حيث خيبة أملهم فيها بسراب يحسبه الظمآن ماء ، فيذهب إليه ليروى عطشه ، فإذا ما وصل إليه لم يجده شيئا ، فيخيب أمله ، وتشتد حسرته .
قال الإمام الرازى : فإن قيل : قوله : " حتى إذا جاءه " يدل على كونه شيئا ، وقوله : " لم يجده شيئا " مناقض له ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه ثلاثة : الأول : المراد معناه أنه لم يجد شيئا نافعا ، كما يقال : فلان ما عمل شيئا وإن كان قد اجتهد الثانى : حتى إذا جاءه أى : جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه . الثالث : الكناية للسراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء ، وإذا قرب منه رق وانتثر وصار كالهواء .
وقوله - سبحانه - : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } معطوف على جملة " لم يجده " فهو داخل التشبيه أى : ووجد الظمآن حكم الله - تعالى - وقضاءه فيه عند السراب ، فوفاه - سبحانه - حسابه الذى يستحقه كاملا غير منقوص .
وفى هذه الجملة الكريمة من التصوير المرعب للكافر ما فيها . حيث شبهته بالظمآن الذى ذهب مسرعا ليروى ظمأه مما ظنه ماء فلما وصل إليه لم يجد ماء ، وإنما وجد الله - تعالى - الذى كفر به وجحد وحدانيته - عنده ، فوفاه حسابه الذى يستحقه من العذاب بدلا من وجود الماء الذى أتعب نفسه فى السعى إليه .
" والله " - تعالى - " سريع الحساب " ، لأنه لا يشغله حساب عن حساب ولا عمل عن عمل ، بل حساب الناس جميعا عنده - عز وجل - كحساب النفس الواحدة .
في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض ، المتبلور في بيوت الله ، المشرق في قلوب أهل الإيمان . . يعرض السياق مجالا آخر . مجالا مظلما لا نور فيه . مخيفا لا أمن فيه . ضائعا لا خير فيه . ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار :
( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه . والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي ، يغشاه موج من فوقه موج ، من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض ، إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) . .
والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين ، حافلين بالحركة والحياة .
في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة ، يلتمع التماعا كاذبا ، فيتبعه صاحبه الظامى ء ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة . فهذا السائر وراء السراب ، الظامىء الذي يتوقع الشراب ، الغافل عما ينتظره هناك . . يصل . فلا يجد ماء يرويه ، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال ، المرعبة التي تقطع الأوصال ، وتورث الخبال : ( ووجد الله عنده ) ! الله الذي كفر به وجحده ، وخاصمه وعاداه . وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه ، وهو ذاهل غافل على غير استعداد . فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار ?
( فوفاه حسابه ) . . هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة ، ( والله سريع الحساب ) . . تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به ، فقال : والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ، مَثَل أعمالهم التي عملوها كسراب يقول : مثلُ سَراب ، والسراب : ما لَصِق بالأرض ، وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الحرّ . والاَل ما كان كالماء بين السماء والأرض ، وذلك يكون أوّل النهار ، يرفع كلّ شيء ضُحًى . وقوله : بقيَعَةٍ وهي جمع قاع ، كالجِيرة جمع جار ، والقاع : ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب . وقوله : يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ يقول : يظن العطشان من الناس السراب ، ماء . حتى إذا جاءه والهاء من ذكر السّراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآن السراب ملتمسا ماء يستغيث به من عطشه لم يَجِدْهُ شَيْئا يقول : لم يجد السراب شيئا ، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غُرور يحسبون أَنها منجيتهم عند الله من عذابه ، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله ، لم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله على كفر بالله ، ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بالمِرصاد ، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه .
فإن قال قائل : وكيف قيل : حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام أدخلت الهاء في قوله : حتى إذَا جاءَهُ ؟ قيل : إنه شيء يُرَى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد والهباء ، فإذا قرب منه المرء رقّ وصار كالهواء . وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه . وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول : والله سريع حسابه لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع ولا حفظ بقلب ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله .
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : ثم ضرب مثلاً آخر ، فقال : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ قال : وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة وهو يَحْسِب أن عند الله خيرا ، فلا يجد ، فيُدخله النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب بنحوه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ يقول : الأرض المستوية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ . . . إلى قوله : وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِساب قال : هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه ، فرأى سرابا فحسبه ماء ، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه ، حتى أتاه ، فلما أتاه لم يجده شيئا ، وقُبض عند ذلك . يقول : الكافر كذلك ، يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا ، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت ، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السّراب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقاعٍ من الأرض ، والسراب : عَمَلُه . زاد الحارث في حديثه عن الحسن : والسراب عمل الكافر . إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا . إتيانه إياه : موته وفراقه الدنيا . وَوَجَد اللّهَ عند فراقه الدنيا ، فَوَفّاهُ حِسَابَهُ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقِيعة من الأرض . يَحْسَبُهُ الظّمانُ ماءً : هو مثل ضربه الله لعمل الكافر ، يقول : يحسب أنه في شيء كما يحسب هذا السراب ماء . حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجدْهُ شَيْئا ، وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا . . . إلى قوله : وَوَجَدَ اللّهُ عِنْدَهُ قال : هذا مَثَل ضربه الله للذين كفروا أعمْالُهُمْ كَسَراب بِقِيعَةٍ قد رأى السراب ، ووثق بنفسه أنه ماء ، فلما جاءه لم يجده شيئا . قال : وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة ، وأنهم سَيَرْجعون منها إلى خير ، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب فهذا مَثَلٌ ضربه الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه . القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .
وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول تعالى ذكره : ومَثَل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عُمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى ، مَثَل ظلمات في بحر لُجّىّ . ونسب البحر إلى اللّجة ، وصفا له بأنه عميق كثير الماء . ولجُة البحر : معظمه . يَغْشاهُ مَوْج يقول : يغشى البحر موج ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ : يقول : من فوق الموج موج آخر يغشاه ، مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ : يقول : من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب . فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم ، والبحر اللجىّ مثلاً لقلب الكافر ، يقول : عَمِل بنية قلب قد غَمَره الجهل وتغشّته الضلال والحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلمات ، يغشاه الجهل بالله ، بأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله ، وعلى سمعه فلا يسمع مواعظ الله ، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ . . . إلى قوله : مِنْ نُورٍ قال : يعني بالظلمات : الأعمال ، وبالبحر اللّجيّ : قلب الإنسان . قال : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، قال : ظلمات بعضها فوق بعض يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر .
وهو كقوله : خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ . . . الآية ، وكقوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ . . . إلى قوله : أفَلا تَذَكّرُونَ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لجّيّ عميق ، وهو مثل ضربه الله للكافر يعمل في ضلالة وحيرة ، قال : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض . ورُوِيِ عن أُبيّ بن كعب ، ما :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىَ يَغْشاهُ مَوْجٌ . . . الآية ، قال : ضرب مثلاً آخر للكافر ، فقال : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ . . . الآية ، قال : فهو يتقلب في خمس من الظّلَم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومَدخله ظلمة ، ومَخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أو كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ . . . إلى قوله : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ قال : شرّ بعضه فوق بعض .
وقوله : إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها يقول : إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات ، لم يكد يراها .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لم يكد يراها ، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف ، وقد علمت أن قول القائل : لم أكد أرى فلانا ، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة ، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه ، فكيف فيها ؟ قيل : في ذلك أقوال نذكرها ، ثم نخبر بالصواب من ذلك . أحدها : أن يكون معنى الكلام : إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها أي لم يعرف من أين يراها . والثاني : أن يكون معناه : إذا أخرج يده لم يرها ، ويكون قوله : لَمْ يَكَدْ في دخوله في الكلام ، نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام ، كقوله : وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ونحو ذلك . والثالث : أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد ، كما يقول القائل لاَخر : ما كدت أراك من الظلمة ، وقد رآه ، ولكن بعد إياس وشدة . وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد » في كلامها . والقول الاَخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها ، قول أوضح من جهة التفسير ، وهو أخفى معانيه . وإنما حسُنَ ذلك في هذا الموضع ، أعني أن يقول : لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا يقول : من من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه ، فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يقول : فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه .
ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين : الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية ، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله { أو كظلمات } ، و «السراب » ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنسبطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء ، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئاً فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئاً ، و «القيعة » جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر »{[1]} ، وقيل القيعة مفرد ، وهو بمعنى القاع ، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات »{[2]} ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف «الظمان » بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة ، وقوله { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } يريد { شيئاً } نافعاً في العطش ، أو يريد { شيئاً } موجوداً على العموم ويريد ب { جاءه } جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في { جاءه } على «السراب » ، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } .
ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أعمالهم } ويكون تمام المثل في قوله { ماء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به ، وقوله { ووجد الله عنده } أي بالمجازاة ، والضمير في { عنده } عائد على العمل ، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه .
لمّا جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } إلى قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ النور : 36 38 ] أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئاً على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة ، وعكس ذلك كقوله : { ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات } [ آل عمران : 197 ، 198 ] الخ فعطْف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة . ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون : ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف . كما أشار إليه قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] يعدون أعمالاً من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالاً لحسبانهم ، قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } [ الفرقان : 23 ] وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . { والذين كفروا } مبتدأ وخبره جملة : { أعمالهم كسراب } الخ . وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو { أعمالهم } . ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظاً في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة .
وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر . وهو أنه من جزاء كفرهم بالله . على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا . فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي : شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز : شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريماً يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة .
واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة . أي داخلة تحت إدراك الحواس .
والسراب : رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء .
وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرُّ الطبقة الهوائية التي فوقها حَرّاً أقل من حرارة الطبقة الملاصقة . وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها . وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض . وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا . . فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها . فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء . ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار .
ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر . وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سَراب . وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر ، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له : أم العرائس من جهات توزر ، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر .
وقوله : { بقيعة } الباء بمعنى في . و ( قيعة ) أرض ، والجار والمجرور وصف { لسراب } وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة . وهذا كقولهم في المثل للذليل « هو فَقع في قرقر » فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر . والقيعة : الأرض المنبسطة ليس فيها رُبّى ويُرادفها القاعة . وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار ، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد .
وقوله : { يحسبه الظمآن ماء } يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل .
و { حتى } ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع . ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله ، كأن يحدده بشجرة أو صخرة . فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب . فهذا معنى قوله : { حتى إذا جاءه } ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء . وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بُعد كلما تقدم السائر في سيره . فضرب ذلك مثلاً لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر .
وقوله : { لم يجده شيئاً } أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئاً .
والشيء : هو الموجود وجوداً معلوماً للناس ، والسراب موجود ومرئي ، فقوله : { شيئاً } أي شيئاً من ماء بقرينة المقام .
وهذا التمثيل كقوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [ الفرقان : 23 ] .
و ( إذا ) هنا ظرف مجرد عن الشرطية . والمعنى : زمن مجيئه إلى السراب ، أي وصوله إلى الموضع .
وقوله : { ووجد الله عنده } هو من تمام التمثيل ، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد مَنْ إن أخذ بناصيته لم يفلته ، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب ، وهو معنى قوله : { فوفاه حسابه } أي أعطاه جزاء كفره وافياً . فمعنى { فوفاه } أنه لا تخفيف فيه ، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده تِرة فأخذه .
وجملة : { والله سريع الحساب } تذييل . والسريع : ضد البطيء . والمعنى : أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه ، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلاً .
واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات . فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء ، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله . ففي قوله : { يحسبه الظمآن } استعارة مصرحة ، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحه ، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتْل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره . فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكتِه بالعدوّ ، ورمز إلى العدو بقوله : { فوفاه حسابه } . وتعدية فعل { وجد } إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين كفروا} بتوحيد الله مثل {أعمالهم} الخبيثة {كسراب بقيعة} يعني: عز وجل بالسراب الذي يرى في الشمس بأرض قاع {يحسبه الظمئان} يعني: العطشان {ماء} فيطلبه ويظن أنه قادر عليه {حتى إذا جاءه} يعني: أتاه {لم يجده شيئا}، فهكذا الكافر إذا انتهى إلى عمله يوم القيامة وجده لم يغن عنه شيئا؛ لأنه عمله في غير إيمان، كما لم يجد العطشان السراب شيئا حين انتهى إليه، فمات من العطش، فهكذا الكافر يهلك يوم القيامة كما هلك العطشان حين انتهى إلى السراب، يقول: {ووجد الله} جل جلاله بالمرصاد و {عنده} عمله {فوفاه حسابه} يقول: فجازاه بعمله لم يظلمه.
{والله سريع الحساب}، يخوفه بالحساب كأنه قد كان،..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به، فقال: والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبمن جاء به، مَثَل أعمالهم التي عملوها "كسراب "يقول: مثلُ سَراب، والسراب: ما لَصِق بالأرض، وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الحرّ. والآل ما كان كالماء بين السماء والأرض، وذلك يكون أوّل النهار، يرفع كلّ شيء ضُحًى. وقوله: "بقيَعَةٍ" وهي جمع قاع... والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب.
وقوله: "يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ" يقول: يظن العطشان من الناس السراب، ماء، "حتى إذا جاءه" والهاء من ذكر السّراب، والمعنى: حتى إذا جاء الظمآنُ السرابَ ملتمسا ماء يستغيث به من عطشه "لم يَجِدْهُ شَيْئا" يقول: لم يجد السراب شيئا، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غُرور يحسبون أَنها منجيتهم عند الله من عذابه، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله، لم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله على كفر بالله، ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بالمِرصاد، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا" فإن لم يكن السراب شيئا، فعلام أدخلت الهاء في قوله: حتى إذَا جاءَهُ؟ قيل: إنه شيء يُرَى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد والهباء، فإذا قرب منه المرء رقّ وصار كالهواء. وقد يحتمل أن يكون معناه: حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه. "وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ" يقول: والله سريع حسابه لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع ولا حفظ بقلب، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله...
عن ابن عباس، في قوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ" إلى قوله: "وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِساب" قال: هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه، فرأى سرابا فحسبه ماء، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه، حتى أتاه، فلما أتاه لم يجده شيئا، وقُبض عند ذلك. يقول: الكافر كذلك، يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السّراب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء" جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين:
أحدهما: أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة، وينتفعوا بها من نحو الصدقات والنفقات وصلة الأرحام ونحوها مما في الظاهر أعمال الخير، فإذا هم حرموا ذلك، لم يجدوا شيئا كالذي يرى السراب من بعيد "يحسبه الظمآن ماء" فسار إليه، فإذا هو لا شيء. فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى السراب، فيحسبه أنه ماء، فإذا هو سراب.
والثاني: ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر؛ وذلك لأنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة...فإذا هم لم ينتفعوا، فصاروا كالعطشان، الذي يرى السراب، فيحسبه أنه ماء. فإذا جاءه وجده سرابا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري...
شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه العطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ووجد الله عنده} أي بالمجازاة، والضمير في {عنده} عائد على العمل..
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} أي: قدم على الله {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي: جازاه بعمله؛ وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر.
{ووجد الله عنده فوفاه حسابه} أي وجد عقاب الله الذي توعد به الكافر عند ذلك فتغير ما كان فيه من ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{حتى إذا جاءه} أي جاء موضعه الذي تخيله فيه. {لم يجده شيئاً} أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعا كاذبا، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك.. وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة. فهذا السائر وراء السراب، الظامىء الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك.. يصل. فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال: (ووجد الله عنده)! الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه. وجده هنالك ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد. فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ما هو السراب؟ إنه الصورة الوهمية للماء الذي يلمع في المفازة كالماء نتيجة انعكاس الشمس على الأرض المستوية في الأفق البعيد، فيخيّل للظمآن الباحث عن الماء لريّ عطشه أنه ماء في الصحراء المترامية الأطراف، فيركض إليه ولكنه يبتعد عنه، وتبقى الصورة تركض أمامه لتغريه بالاستمرار في الركض، حتى إذا انتهى به السير إلى أقصى ما يستطيع بلوغه، لم يجد هناك أيّ شيءٍ يوحي بالماء... وهذا هو حال الكافرين في ما يقومون به من الأعمال والقرابين التي يقدمونها لآلهتهم الموهومة...