97- أن من عمل عملاً صالحا في هذه الدنيا ، سواء كان ذكراً أو أنثى ، مندفعا إلى هذا العمل الصالح بقوة الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، فإننا لا بد أن نحييه في هذه الحياة الدنيا حياة طيبة لا تنغيص فيها ، تغمرها القناعة والرضا والصبر على مصائب الدنيا ، والشكر على نعم اللَّه فيها ، وفي الآخرة لا بد أن نجزي هذا الفريق من الناس حسن الثواب المضاعف على أعمالهم في الدنيا .
قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً } ، قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال . قال الحسن : هي القناعة . وقال مقاتل بن حيان : يعني : العيش في الطاعة . وقال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة . قال مجاهد وقتادة : هي الجنة . ورواه عوف عن الحسن . وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة . { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ، بل لا تسمى أعمالا صالحة إلا بالإيمان ، والإيمان مقتض لها ، فإنه التصديق الجازم المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ، فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح ، { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب . { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } في الآخرة ، { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، من أصناف اللذات مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فيؤتيه الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال - تعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أي : من عمل عملا صالحا ، بأن يكون خالصا لوجه الله - تعالى - وموافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى ، فلنحيينه حياة طيبة ، يظفر معها بصلاح البال ، وسعادة الحال .
وقال - سبحانه - : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، مع أن لفظ " مَنْ " في قوله : { من عمل } ، يتناول الذكور والإِناث ؛ للتنصيص على النوعين ، حتى يكون أغبط لهما ، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم .
ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " مَن " متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإِطلاق للنوعين ، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا .
وقيد - سبحانه - العامل بكونه مؤمنا فقال : { وهو مؤمن } ؛ لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله - تعالى - إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة ، وكان صاحبه يدين بدين الإِسلام ، وقد أوضح القرآن هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } والمراد بالحياة الطيبة في قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن ينقضي أجله .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : هذا وعد من الله - تعالى - لمن عمل صالحا من ذكر أوأنثى ، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا . . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال ، وعن علي بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة .
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .
وقيل : المراد بالحياة الطيبة هنا : الحياة الأخروية ، وقد صدر الشيخ الآلوسي تفسيره بهذا الرأي فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، والمراد بالحياة الطيبة : التي تكون في الجنة ، إذ هناك حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة . . فعن الحسن : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ . . وقال غير واحد : هي في الدنيا .
ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح ؛ لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله - تعالى - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
وبمناسبة العمل والجزاء ، يعقب بالقاعدة العامة فيهما :
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . . فيقرر بذلك القواعد التالية :
أن الجنسين : الذكر والأنثى . متساويان في قاعدة العمل والجزاء ، وفي صلتهما بالله ، وفي جزائهما عند الله . ومع أن لفظ( من )حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل : ( من ذكر أو أنثى )لزيادة تقرير هذه الحقيقة . وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى ، وضيق المجتمع بها ، واستياء من يبشر بمولدها ، وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا !
وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها . قاعدة الإيمان بالله ( وهو مؤمن ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا ، وإلا فهي أنكاث . فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية . فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير . لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل .
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض . لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال . فقد تكون به ، وقد لا يكون معها . وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه . وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات القلوب . وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة . . وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل ، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله .
وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة .
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات . فما أكرمه من جزاء !
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من عمل بطاعة الله ، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهُوَ مُؤْمِنٌ يقول : وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة ، وبوعيد أهل معصيته على المعصية { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } .
واختلف أهل التأويل في الذي عَنَى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْييهموها ، فقال بعضهم : عني أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سَميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الحياة الطيبة : الرزق الحلال في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الحسن في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الطيب في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } قال : الرزق الطيب في الدنيا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، يعني : في الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن مطرف ، عن الضحاك : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : الرزق الطيب الحلال .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عون بن سلام القرشيّ ، قال : أخبرنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، في قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : يأكل حلالاً ويلبس حلالاً .
وقال آخرون : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَة } ، ً بأن نرزقه القناعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن أبي خزيمة سليمان التمّار ، عمن ذكره عن عليّ : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : القنوع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو عصام ، عن أبي سعيد ، عن الحسن البصريّ ، قال : الحياة الطيبة : القناعة .
وقال آخرون : بل يعني بالحياة الطيبة : الحياة مؤمنا بالله عاملاً بطاعته . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } يقول : من عمل عملاً صالحا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة ، فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا ، عيشته ضنكة لا خير فيها .
وقال آخرون : الحياة الطيبة السعادة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وعليّ بن داود ، قالا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : السعادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الحياة في الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هَوْذة ، عن عوف ، عن الحسن : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : لا تطيب لأحد حياة دون الجنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، فإن الله لا يشاء عملاً إلا في إخلاص ، ويوجب من عمل ذلك في إيمان ، قال الله تعالى : { فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، وهي الجنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً قال : الاَخرة يحييهم حياة طيبة في الاَخرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً } ، قال : الحياة الطيبة في الاَخرة : هي الجنة ، تلك الحياة الطيبة ، قال : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال : ألا تراه يقول : { يا لَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَياتي } ؟ قال : هذه آخرته . وقرأ أيضا : { وَإنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ } ، قال : الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة ، ليس فيها موت لأحد من الفريقين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، قال : الإيمان : الإخلاص لله وحده ، فبين أنه لا يقبل عملاً إلا بالإخلاص له .
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق ، لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ، ولم يتكدّر فيها عيشه ، باتباعه بغية ما فاته منها ، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها .
وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ؛ لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فقال تعالى : { وَلا تَتّخِذُوا أيمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السّوءَ بِمَا صَدَدَتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } ، فهذا لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، فهذا لهم في الآخرة . ثم أتبع ذلك ما لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى : ما عندكم في الدنيا ينفد ، وما عند الله باق ، فالذي هذه السيئة بحكمته أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا ، والغفران في الآخرة ، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره .
وأما القول الذي رُوِي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال ، فهو محَتمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك ، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال وإن قلّ ، فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله ، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال ، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا ، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة .
وقوله : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، فذلك لا شكّ أنه في الآخرة وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، قال : إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي مالك ، وأبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ } ، قال : في الاَخرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن سُمَيع ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، يقول : يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون .
وقيل : إن هذه الآية نزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا ، فقال أهل كلّ ملة منها : نحن أفضل ، فبين الله لهم أفضل أهل الملل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فأنزل الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } .
وقوله : { من عمل صالحاً } ، يعم جميع أعمال الطاعة ، ثم قيده بالإيمان ، واختلف الناس في : { الحياة الطيبة } ، فقال ابن عباس والضحاك : هو الرزق الحلال ، وقال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي القناعة ، وهذا طيب عيش الدنيا ، وقال ابن عباس أيضاً : هي السعادة ، وقال الحسن البصري : «الحياة الطيبة » هي حياة الآخرة ونعيم الجنة .
قال القاضي أبو محمد : وهناك هو الطيب على الإطلاق ، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا ، والذي أقول : إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم ، والرجاء للنفس أمر ملذ ، فبهذا تطيب حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة ، أو قناعة فذلك كمال ، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب ، وجاء قوله : { فلنحيينه } على لفظ { من } ، وقوله : { ولنجزينهم } على معناها ، وهذا وعد بنعيم الجنة ، وباقي الآية بين ، وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال : نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا ، وقال كل منهم : ملتي أفضل ، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل .
لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى ؛ { وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 96 ] خاصاً بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً عُقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر ، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها ، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر . وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها .
وقوله تعالى : { من ذكر أو أنثى } تبيين للعموم الذي دلّت عليه { مَن } الموصولة . وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين . وأكّد هذا الوعدُ كما أكّد المبيّن به .
وذُكر « لنحيينّه » ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى : { حياة طيبة } . وذلك المصدر هو المقصود ، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة . وابتدىء الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفاً له كأنه قيل : فله حياة طيبة مِنّا . ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثُر إطلاق الحياة على مدّتها ، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار ، أي طيب ما يحصل فيها ، فهذا الوصف مجاز عقلي ، أي طيّباً ما فيها . ويقارنها من الأحول العارضة للمرء في مدّة حياته ، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحاً عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده .
ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال : « هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً ، كان منهم مُصعَب بنُ عمير قتل يوم أُحد فلم يترك إلا نَمِرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدُبُها » .
والطيِّب : ما يطيب ويحسن . وضد الطيّب : الخبيث والسيّىء . وهذا وعد بخيرات الدنيَا . وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم . وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم . ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا .
وقد عُقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى : { ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفاً فإنه عامّ في الجَزاءين .