45- الله خالق كل شيء ، وأبدع الأشياء بإرادته ، وخلق كل حي يدب من أصل مشترك هو الماء ، لذلك لا يخلو الحي منه ، ثم خالف بينها في الأنواع والاستعدادات ووجوه الاختلاف الأخرى ، فمن الدواب نوع يزحف علي بطنه كالأسماك والزواحف ، ومنها نوع يمشى علي رجليه كالإنسان والطير ، ومنها نوع يمشى علي أربع كالبهائم ، يخلق الله ما يشاء من خلقه علي أية كيفية تكون للدلالة علي قدرته وعلمه ، فهو المريد المختار ، وهو القادر علي كل شيء{[153]} .
قوله تعالى :{ والله خلق كل دابة } قرأ حمزة والكسائي ، ( خالق كل ) بالإضافة ، وقرأ الآخرون ( خلق كل ) على الفعل ، { من ماء } يعني : من نطفة ، وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ، ولا يدخل فيه الملائكة ولا الجن ، لأنا لا نشاهدهم . وقيل : أصل جميع الخلق من الماء ، وذلك أن الله تعالى خلق ماء ثم جعل بعضه ريحاً فخلق منها الملائكة ، وبعضه ناراً فخلق منها الجن ، وبعضها طيناً فخلق منها آدم ، { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيات والحيتان والديدان ، { ومنهم من يمشي على رجلين } مثل بني آدم والطير ، { ومنهم من يمشي على أربع } كالبهائم والسباع ، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض ، لأنها في الصورة كالتي يمشي على الأربع ، وإنما قال : من يمشي ، و " من " إنما تستعمل فيمن يعقل دون من لا يعقل من الحيات والبهائم ، لأنه ذكر كل دابة ، فدخل فيه الناس وغيرهم ، وإذا جمع اللفظ من يعقل ومن لا يعقل تجعل الغلبة لمن يعقل . { يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير* }
{ 45 } { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ينبه عباده على ما يشاهدونه ، أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الأرض ، { مِنْ مَاءٍ } أي : مادتها كلها الماء ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }
فالحيوانات التي تتوالد ، مادتها ماء النطفة ، حين يلقح الذكر الأنثى . والحيوانات التي تتولد من الأرض ، لا تتولد إلا من الرطوبات المائية ، كالحشرات لا يوجد منها شيء ، يتولد من غير ماء أبدا ، فالمادة واحدة ، ولكن الخلقة مختلفة من وجوه كثيرة ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية ونحوها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالآدميين ، وكثير من الطيور ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كبهيمة الأنعام ونحوها . فاختلافها -مع أن الأصل واحد- يدل على نفوذ مشيئة الله ، وعموم قدرته ، ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : من المخلوقات ، على ما يشاؤه من الصفات ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما أنزل المطر على الأرض ، وهو لقاح واحد ، والأم واحدة ، وهي الأرض ، والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
ثم ساق - سبحانه - دليلا ثالثا من واقع خلق كل دابة ، وبديع صنعه فيما خلقه فقال : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ . . . } .
والدابة : اسم لكل حيوان ذى روح ، سواء أكان من العقلاء أم من غيرهم . وهذا اللفظ مأخوذ من الدبيب ، بمعنى المشى الخفيف .
وتطلق الدابة فى العرف على ذوات الأربع ، والمراد بها هنا ما هو أعم من ذلك .
قال بعض العلماء : " وهذه الحقيقة الضخمة التى يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعنى وحدة العنصر الأساسى فى تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعنى ما يحاول العلم الحديث أن يتبعه من أن الحياة خرجت من البحر ، ونشأت أصلا فى الماءن ثم تنوعت الأنواع وتفرعت الأجناس .
ولكنا نحن على طريقتنا فى عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا ، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية ، وهى أن الله - تعالى - خلق الأحياء كلها من الماء ، فهى ذات أصل واحد ، ثم هى - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . . .
وقال الإمام الرازى : فإن قيل لماذا نكر الماء هنا ، وجاء معرفا فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والجواب : إنما جاء هنا منكرا ، لأن المعنى ، أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة ، وإنما جاء معرفا فى قوله { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء } لأن المقصود هناك ، كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وههنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة .
وقوله - تعالى - : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ .
. . } تفصيل لهذه المخلوقات التى خلقت من الماء .
والضمير فى " منهم " يعود إلى " كل " باعتبار معناه ، وفيه تغليب العاقل على غيره .
أى : فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه كالزواحف وما يشبهها ، " ومنهم من يمشى على رجلين " كالإنس والطير " ومنهم من يمشى على أربع " كالأنعام والوحوش " يخلق الله " - تعالى - " ما يشاء " خلقه من دواب وغيرها على وفق إرادته وحكمته " إن الله على كل شىء قدير " فلا يعجزه - سبحانه - خلق ما يريد خلقه ، ولا يمنعه من ذلك مانع ، بل كل شىء خاضع لقدرته - عز وجل .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله - تعالى - . منها ما يتعلق بالكائن العلوى ، ومنها ما يتعلق بالزمان ، ومنها ما يتعلق بخلق أنواع الدواب على اختلاف أشكالها .
ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون ، واستثارة تطلعنا إليها ؛ فيعرض نشأة الحياة ، من أصل واحد ، وطبيعة واحدة ، ثم تنوعها ، مع وحدة النشأة والطبيعة :
( والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رجلين ، ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير ) . .
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع ، وتفرعت الأجناس . .
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها ، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته ، لا عن فلتة ولا مصادفة : يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها : ( إن الله على كل شيء قدير ) .
وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام ، والأصول والأنواع ، والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد ، ليوحي بالتدبير المقصود ، والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ؛ وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَاللّهُ خَلَق كُلّ دابّةٍ مِنْ ماءٍ فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم : «وَاللّهْ خالِقُ كُلّ دَابّةٍ » . وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دابّةٍ بنصب «كلّ » ، و«خَلَقَ » على مثال «فَعَل » . وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك «خالق » تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ ماءٍ يعني : من نطفة . فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحياة وما أشبهها . وقيل إنما قيل : فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ والمشي لا يكون على البطن لأن المشي إنما يكون لما له قوائم ، على التشبيه ، وأنه لما خالط ما له قوائمُ ما لا قوائمَ له ، جاز ، كما قال : وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ كالبهائم .
فإن قال قائل : فكيف قيل : فمنهم من يمشي ، و«مَن » للناس ، وكلّ هذه الأجناس أو أكثرها لغيرهم ؟ قيل : لأنه تفريق ما هو داخل في قوله : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ وكان داخلاً في ذلك الناس وغيرهم ، ثم قال : فمنهم لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم ، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم ، ثم فسرهم ب«مَن » ، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة . يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ يقول : يحدث الله ما يشاء من الخلق . إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ يقول : إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء غيره ، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد .
{ والله خلق كل دابة } حيوان يدب على الأرض . وقرأ حمزة والكسائي " خالق كل دابة " بالإضافة { من ماء } هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة ، وقيل { من ماء } متعلق ب { دابة } وليس بصلة ل{ خلق } . { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة . { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والطير . { ومنهم من يمشي على أربع } كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع ، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة . { يخلق الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته . { إن الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء .
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققاً كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيداً لأمرين : التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي . والتجدد بكون الخبر فعلياً .
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب .
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله : { يخلق الله ما يشاء } .
وقرأ الجمهور { والله خلق كل دابة } بصيغة فعل المضي ونصب { كل } . وقرأه الكسائي { والله خالق كل دابة } بصيغة اسم الفاعل وجر { كل } بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله .
والدابة : ما دبّ على وجه الأرض ، أي مشى . وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مراداً به الإنسان وغيره مرتين .
وتنكير { ماء } لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار .
وهذا بخلاف قوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه ، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله . وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية { وجعلنا من الماء كل شيء حيّ } [ الأنبياء : 30 ] .
و { من } ابتدائية متعلقة ب { خلق } .
ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين ، وهذا المشي زحفاً . أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع . وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد .
وجملة : { يخلق الله ما يشاء } زيادة في العبرة ، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا . فهي جملة مستأنفة .
وجملة : { إن الله على كل شيء قدير } تعليل وتذييل . ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاماً مستقلاً بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه} يعني: الهوام. {ومنهم من يمشي على رجلين} الإنس والجن والطير.
{ومنهم من يمشي على أربع} قوائم، يعني: الدواب والأنعام والوحش والسباع. {يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء} من الخلق {قدير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وقوله:"خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِن ماءٍ" يعني: من نطفة.
"فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ "كالحيّات وما أشبهها. وقيل إنما قيل: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ" والمشي لا يكون على البطن لأن المشي إنما يكون لما له قوائم، على التشبيه، وأنه لما خالط ما له قوائمُ ما لا قوائمَ له، جاز، كما قال: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ" كالطير، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ" كالبهائم.
فإن قال قائل: فكيف قيل: فمنهم من يمشي، و«مَن» للناس، وكلّ هذه الأجناس أو أكثرها لغيرهم؟ قيل: لأنه تفريق ما هو داخل في قوله: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ" وكان داخلاً في ذلك الناس وغيرهم، ثم قال: فمنهم لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم، ثم فسرهم ب«مَن»، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة. "يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ" يقول: يحدث الله ما يشاء من الخلق.
"إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ" يقول: إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء غيره، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد خلقَ كُلَّ حيوانٍ من ماء، يخرج من صُلْب الأب وتريبة الأمِّ. ثم أجزاءُ الماءِ متساويةٌ متماثِلة، ثم ينقسم إلى جوارح في الظاهر وجوارح في الباطن، فيختصُّ كلُّ عضو وينفرد كل شِلْوٍ بنوع من الهيئة والصورة، وضَرْبٍ من الشكل والبِنْيَةِ. ثم اختلاف هيئات الحيوانات في الريش والصوف والوبر والظفر والحافر والمخلب، ثم في القامة والمنظر، ثم انقسام ذلك إلى لحم وشحم وجِلْدٍ وعَظْمٍ وسِنِّ ومخِّ وعَصب وعِرْقٍ وشَعْرٍ.
فالنظرُ في هذا -مع العبرة به- يوجِبُ سجودَ البصيرةَ وقوة التحصيل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم نكر الماء في قوله: {مِّن مَّآء}؟ قلت: لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابة، أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة...فإن قلت: فما باله معرّفاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَي} [الأنبياء: 30]؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط...
فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت؛ على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال: {والله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دآبة} أي مما تقدم أنه يسبح له.
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: {من ماء} أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء "هامر "كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه {فمنهم} أي الدواب.
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: {من يمشي على بطنه} أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة {ومنهم من يمشي على رجلين} أي ليس غير {ومنهم من يمشي على أربع} أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {يخلق الله} وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال: {ما يشاء} دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: {إن الله} أي الذي الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا، وهو الماء، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء. ثم تنوعت الأنواع، وتفرعت الأجناس.
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل.. لا نزيد على هذه الإشارة شيئا. مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية. وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء. فهي ذات أصل واحد. ثم هي -كما ترى العين- متنوعة الأشكال...
كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته، لا عن فلتة ولا مصادفة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتنكير {ماء} لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار. وهذا بخلاف قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله.
والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حيز مكاني إلى حيز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يوضح لنا سبحانه أن المشي أنواع: فمن الدواب من يمشي على بطنه. ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.
وربنا- سبحانه وتعالى – بسط لنا هذه المسألة بسطا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلا أن من الدواب من له أربع وأربعون مثلا، وفي تنوع طرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خلقه. لذلك قال بعدها: {يخلق الله ما يشاء} لأن الآية لم تستقص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت {يخلق الله ما يشاء} تندرج مثلا (أم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.