قوله عز وجل :{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب } بمشقة وضر . قرأ أبو جعفر : ( ( بنصب ) ) بضم النون والصاد ، وقرأ يعقوب بفتحهما ، وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد ، ومعنى الكل واحد . قال قتادة و مقاتل : بنصب في الجسد ، وعذاب في المال . وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة ابتلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام .
أي : { وَاذْكُرْ } في هذا الكتاب ذي الذكر { عَبْدَنَا أَيُّوبَ } بأحسن الذكر ، وأثن عليه بأحسن الثناء ، حين أصابه الضر ، فصبر على ضره ، فلم يشتك لغير ربه ، ولا لجأ إلا إليه .
ف { نَادَى رَبَّهُ } داعيا ، وإليه لا إلى غيره شاكيا ، فقال : رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } أي : بأمر مشق متعب معذب ، وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح ، ثم تقيح بعد ذلك واشتد به الأمر ، وكذلك هلك أهله وماله .
انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أيوب - عليه السلام - فذكرت نداءه لربه ، واستجابة الله - تعالى - له وما وهبه من نعم جزاء صبره ، فقال - تعالى - : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ . . . } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أن قصة أيوب هى القصة الثالثة من القصص المذكورة فى هذه السورة ، واعلم أن داود وسيمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء ، وأيوب كان ممن خصه الله بأنواع البلاء ، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار .
فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله لعيه وسلم : اصبر على سفاهة قومك ، فإنه ما كان فى الدنيا أكثر نعمة ومالا من داود وسليمان ، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، فتأمل فى أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد ، وأن العاقل لابد له من الصبر على المكاره . .
وأيوب - عليه السلام - هو ابن أموص بن برزاح ، وينتهى نسبه إلى إسحاق بن إبراهيم - عليهما السلام - وكانت بعثته على الراجح بين موسى ويوسف - عليهما السلام - . وكان صاحب أموال كثيرة ، وله أولاد . . فابتلى فى ماله وولده وجسده ، وصبر على كل ذلك صبرا جميلا . فكافأه الله - تعالى - على صبره ، بأن أجاب دعاءه ، وآتاه أهله ومثلهم معهم . .
وقوله - سبحانه - : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ . . } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ . . . } و " النًّصْب " - بضم فسكون - وقرأ حفص ونافع - بضم النون والصاد : - التعب والمشقة مأخوذ من قولهم أنصبنى الأمر ، إذا شق عليه وأتعبه . والعذاب : الآلام الشديدة التى يحس بها الإِنسان فى بدنه . أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - حال أخيك أيوب - عليه السلام - حين دعا ربه - تعالى - فقال : يا رب أنت تعلم أنى مسنى الشيطان بالهموم الشديد ، وبالآلام المبرحة التى حلت بجسدى فجعلتنى فى نهاية التعب والمرض .
وجمع - سبحانه - فى بيان ما أصابه بين لفظى النصب والعذاب ، للإِشارة إلى أنه قد أصيب بنوعين من المكروه : الغم الشديد بسبب زوال الخيرات التى كانت يديه ، وهو ما يشير إليه لفظ { النصب } والألم الكثير الذى حل بجسده بسبب الأمراض والأسقام ، والعلل ، وهو ما يشيير إليه لفظ { العذاب } .
ونسب ما مسه من نصب وعذاب إلى الشيطان تأدبا منه مع ربه - عز وجل - حيث أبى أن ينسب الشر إليه - سبحانه - ، وإن كان الكل من خلق الله - تعالى - .
وفى هذا النداء من أيوب لربه ، أسمى ألوان الأدب والإِجلال ، إذا اكتفى فى تضرعه بشرح حاله دون أن يزيد على ذلك ، ودون أن يقترح على خالقه - عز وجل - شيئا معينا ، أو يطلب شيئا معينا .
قال صاحب الكشاف : ألطف أيوب - عليه السلام - فى السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة .
ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له : يا أمير المؤمنين ، مشت جرذان - أى فئران - بيتى على العصا ! ! فقال لها : ألطفت فى السؤال ، لا جرم لأجعلنها تثب وثب الفهود ، وملأ بيتها حبا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الأنبياء : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } وقد ذكر بعض المفسرين هنا قصصا وأقوالا فى غاية السقوط والفساد ، حيث ذكروا أن أيوب - عليه السلام - مرض زمنا طويلا ، وأن الديدان تناثرت من جسده ، وأن لحمه قد تمزق .
وهذه كلها أقوال باطلة ، لأن الله - تعالى - عصم أنبياءه من الأمراض المنفرة ، التى تؤدى إلى ابتعاد الناس عنهم ، سواء أكانت أمراضا جسدية أم عصبية أم نفسية . .
والذى يجب اعتقاده أن الله - تعالى - قد ابتلى عبده أيوب ببعض الأمراض التى لا تتنافى مع منصب النبوة ، وقد صبر أيوب على ذلك حتى ضرب به المثل فى الصبر ، فكانت عاقبة صبره أن رفع الله - تعالى - عنه الضر والبلاء ، وأعطاه من فضله الكثير من نعمه .
ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر ، والإنعام بعد ذلك والإفضال . نمضي في السياق مع قصة أيوب :
( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . اركض برجلك . هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب . وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب ) . .
وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة ؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر . ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها . والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب - عليه السلام - كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً ؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه ، وثقته به ، ورضاه بما قسم له .
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له - ومنهم زوجته - بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه . وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء . فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه - قيل مائة .
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان ، ومداخله إلى نفوس خلصائه ، ووقع هذا الإيذاء في نفسه :
( أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) . .
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره ، ونفوره من محاولات الشيطان ، وتأذيه بها ، أدركه برحمته . وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَاذْكُرْ أيضا يا محمد عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ مستغيثا به فيما نزل به من البلاء : يا ربّ إنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ فاختلفت القرّاء في قراءة قوله : بنُصْبٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارىء : بِنُصْبٍ بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ ذلك أبو جعفر : بضم النون والصاد كليهما ، وقد حُكي عنه بفتح النون والصاد والنّصْب والنّصَب بمنزلة الحُزْن والحَزَن ، والعُدم والعَدَم ، والرّشْد والرّشَد ، والصّلْب والصّلَب . وكان الفرّاء يقول : إذا ضُمّ أوّله لم يثقل ، لأنهم جعلوهما على سِمَتين : إذا فتحوا أوّله ثقّلوا ، وإذا ضموا أوّله خفّفوا . قال : وأنشدني بعض العرب :
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمّ الحُمَيْدَيْنِ مائِرا *** لَقَدْ غَنَيَتْ في غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ
من قولهم : جَحِد عيشه : إذا ضاق واشتدّ قال : فلما قال جُحْد خَفّف . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين : النّصُب من العذاب . وقال : العرب تقول : أنصبني : عذّبني وبرّح بي . قال : وبعضهم يقول : نَصَبَني ، واستشهد لقيله ذلك بقول بشر بن أبي خازم :
تَعَنّاكَ نَصْبٌ مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ *** كَذِي الشّجْوِ لَمّا يَسْلُه وسيَذْهَبُ
وقال : يعني بالنّصْب : البلاء والشرّ ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
كِلِينِي لِهَمّ يا أمَيْمَةَ ناصِبِ *** وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَوَاكِبِ
قال : والنّصَب إذا فُتحت وحُرّكت حروفها كانت من الإعياء . والنّصْب إذا فُتح أوله وسكن ثانيه : واحد أنصاب الحرم ، وكلّ ما نصب علما وكأن معنى النّصب في هذا الموضع : العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه ، والعذاب في ذهاب ماله .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك الضمّ في النون والسكون في الصاد .
وأما التأويل فبنحو الذي قلنا فيه قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ حتى بلغ : بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) : ذهاب المال والأهل ، والضرّ الذي أصابه في جسده ، قال : ابتُلِي سبع سنين وأشهرا مُلقى على كُناسة لبني إسرائيل تختلف الدوابّ في جسده ، ففرّج الله عنه ، وعظّم له الأجر ، وأحسن عليه الثناء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ قال : نصب في جسدي ، وعذاب في مالي .
حُدثت عن المحاربيّ ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : ( أنّي مَسّنِيَ الشّيْطانُ بنُصْبٍ ) يعني : البلاء في الجسد وَعَذابٍ قوله : ( وَما أصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ )
{ واذكر عبدنا أيوب } هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه . { إذ نادى ربه } بدل من { عبدنا } و { أيوب } عطف بيان له . { أني مسني } بأن مسني ، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل . { الشيطان بنصب } بتعب . { وعذاب } ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه ، والإسناد إلى { الشيطان } إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه ، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه ، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب ، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم ، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع ، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر ، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل .
هذا مَثَل ثانٍ ذُكّر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر ، وهو معطوف على { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } [ ص : 17 ] ولكونه مقصوداً بالمَثل أعيد معه فعل { اذْكُر } كما نبهنا عليه في قوله : { واذكر عبدنا داود } [ ص : 17 ] ، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء . وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام .
وإذ كانت تعدية فعل { اذكر } إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله : { إذ نادى ربّه } بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب . وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه .
والنداء : نداء دُعاء لأن الدعاء يفتتح ب : يا رب ، ونحوه .
و { أنِّي مسَّنِي الشيطانُ } متعلق ب { نادى } بحذف الباء المحذوفة مع ( أن ) ، أي نادى : بأنّي مسني الشيطان ، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة { نادى ربَّهُ } ولولا وجود ( أن ) المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة { نادى } ، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل { نادى } وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء . فقولهم : إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب تفرقة بين موقع ( أنَّ ) المفتوحة وموقع ( إنَّ ) المكسورة ولهذا الفرق بين الفتححِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتححِ الهمزة وكسرِها في نحو « خيرُ القَول أني أحمد » .
وقد ذكرنا في قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين في سورة } [ الأنفال : 9 ] رأينا في كون ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من ( أَنْ ) التفسيرية ( وأنَّ ) الناسخة . والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية ، كقوله : { رب إني وضعتها أنثى } [ آل عمران : 36 ] ، وقد قال في آية سورة [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } والنُصْب ، بضم النون وسكون الصاد : المشقة والتعب ، وهي لغة في نَصَب بفتحتين ، وتقدم النَصَب في سورة الكهف . وقرأ أبو جعفر { بِنُصُبٍ } بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون .
والعذاب : الألم . والمراد به المرض يعني : أصابني الشيطان بتعَب وألم . وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى { أني مسني الضر } [ الأنبياء : 83 ] .
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما ، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب ، ففي سورةَ [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر } فأسند المسّ إلى الضر ، والضرّ هو النصب والعذاب . وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان ، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها .
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله : { بِنُصبٍ } على أنها باء التعدية لتعدية فعل { مَسَّنِي } ، أو باء الآلة مثل : ضربه بالعصا ، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى .
والوجه عندي : أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه ، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب ، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك . أو تحمل البَاء على المصاحبة ، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب ، ففي قول أيوب { أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ } كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام : { وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين } [ يوسف : 33 ] .
وتنوين « نصب وعذاب » للتعظيم أو للنوعية ، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} إذ قال لربه: {أني مسني الشيطان}: أصابني الشيطان.
{بنصب} مشقة في جسده {وعذاب} في ماله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَاذْكُرْ" أيضا يا محمد "عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ "مستغيثا به فيما نزل به من البلاء: يا ربّ إنّي "مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ"... معنى النّصب في هذا الموضع: العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه، والعذاب في ذهاب ماله...
عن قتادة: "وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ" حتى بلغ "بِنُصْبٍ وَعَذابٍ": ذهاب المال والأهل، والضرّ الذي أصابه في جسده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لا ندري ما الذي كان من الله من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان، وليس لنا أن نقول: إنه مكن عليه كذا، وفعل كذا في كذا، إلا أن يثبت عن الله، ثم وجه الحكمة من تمكين الشيطان على أوليائه في ما مكن في أمر الدين؛ لتعلم جهة الفضل من جهة العدل، وجهة الحلم من جهة الرحمة، وأن له [أن] يمتحن عباده بما شاء وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، فعلى ذلك بلاء أيوب عليه السلام والشدائد التي أصابته؛ جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتدأه امتحانا منه إياه بذلك.
{مسني الشيطان بنصب وعذاب} إنه وإن أضاف إليه، فهو في الحقيقة من الله لما أخبر أنه على يديه كقوله عز وجل: {يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واذكر عبدنا} أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله: {أيوب} وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام؛ لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال: {إذ} أي اذكر حاله الذي كان حين: {نادى} وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان؛ لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال: {ربه} أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه -وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى- أتاه ما لا صبر عليه: {إني} أي رب أدعوك بسبب أني.
ولما كان هنا في سياق التصبير، عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال: {مسّني} أي وأنا من أوليائك.
{الشيطان} أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له.
{بنصب} أي ضر ومشقة وهم وداء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتعبه ويعييه ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه.
{وعذاب} أي نكد قوي جداً دائم مانع من كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوى، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر، ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب -عليه السلام- كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً، ولكنه ظل على صلته بربه وثقته به، ورضاه بما قسم له، وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له -ومنهم زوجته- بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه -قيل مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: (أني مسني الشيطان بنصب وعذاب).. فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذ كانت تعدية فعل {اذكر} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف؛ لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله: {إذ نادى ربّه} بدل اشتمال من أيوب؛ لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب، وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله؛ لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه...
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ
[الأنبياء: 83] {أني مسني الضر} فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب، وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِي}، أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.
أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب {أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام: {وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين} [يوسف: 33]. وتنوين « نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.