قوله تعالى : { أولئك } . أهل هذه الصفة .
قوله تعالى : { عليهم صلوات من ربهم ورحمة } . صلوات أي رحمة ، فإن الصلاة من الله الرحمة ، والرحمة ذكرها الله تأكيداً وجميع الصلوات رحمة .
قوله تعالى : { وأولئك هم المهتدون } . إلى الاسترجاع . وقيل إلى الحق والصواب وقيل إلى الجنة والثواب .
قال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعمت العلاوة ، فالعدلان الصلاة والرحمة ، والعلاوة الهداية .
وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين . منها ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن محمد بن الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال : سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيراً يصب منه " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا عبد الملك بن عمرو ، أخبرنا زهير بن محمد ، عن محمد بن عمرو بن حلحلة ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما يصيب المسلم من نصب ، ولا وصب ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا أذى ، ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ؛ أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا محمد بن عبيد ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : ادع الله لي أن يشفيني قال " إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك " قالت : بل أصبر ولا حساب علي .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن أبي نزار ، أخبرنا أبو منصور العباس بن الفضل النضروي ، أخبرنا أحمد بن نجدة ، أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، أخبرنا حماد ابن زيد ، عن عاصم هو ابن أبي النجود ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاءً قال : " الأنبياء والأمثل فالأمثل ، يبتلي الله الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا ابتلي على قدر ذلك ، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يزال كذلك حتى يمشي على الأرض وماله من ذنب " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن سعيد بن سنان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء فإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط " .
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أحبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا أبو إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث ، عن عمرو بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجبا للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر . فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته " .
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي : ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة ، ومن رحمته إياهم ، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق ، وهو في هذا الموضع ، علمهم بأنهم لله ، وأنهم إليه راجعون ، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله .
ودلت هذه الآية ، على أن من لم يصبر ، فله ضد ما لهم ، فحصل له الذم من الله ، والعقوبة ، والضلال والخسار ، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين ، وأعظم عناء الجازعين ، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها ، لتخف وتسهل ، إذا وقعت ، وبيان ما تقابل به ، إذا وقعت ، وهو الصبر ، وبيان ما يعين على الصبر ، وما للصابر من الأجر ، ويعلم حال غير الصابر ، بضد حال الصابر .
وأن هذا الابتلاء والامتحان ، سنة الله التي قد خلت ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وبيان أنواع المصائب .
ثم بين - سبحانه - ما أعده للصابرين من أجر جزيل فقال : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون } .
{ أولئك } اسم إشارة أتى به - سبحانه - للتنبيه على أن المشار إليه هم الموصوفون بجميع الصفات السابقة على اسم الإِشارة ، وأن الحكم الذي ورد بعد مترتب على هذه الأوصاف .
و { صَلَوَاتٌ } جمع صلاة . وصلاة الله على عباده إقباله عليهم . بالثناء والعطف والمغفرة . وجمعت مراعاة لكثرة ما يترتب عليها من أنواع الخيرات في الدنيا والآخرة .
{ وَرَحْمَةٌ } - كما هو مذهب السلف - صفة قائمة بذانه - تعالى - لا نعرف حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .
وعطف - سبحانه - الرحمة على الصلوات ليدل على أن بعد ذلك الإِقبال منه على عباده إنعاماً واسعاً ، وعطاء جزيلاً في الدنيا والآخرة .
وجاءت الرحمة مفردة على أصل المصادر وهو الإِفراد ، والمقام في الآية يذهب بذهن السامع إلى كثرة الإِنعام المترتب على الصبر الجميل .
والجملة { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } استثنافية جواب عن سؤال تقديره : بماذا بشر الله الصابرين ؟ فكان الجواب : أولئك عليهم صلوات . . . إلخ .
والمعنى : أولئك الصابرون المحتسبون الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، عليهم مغفرة عظيمة من خالقهم ، وإحسان منه - سبحانه - يشملهم في دنياهم وآخرتهم { وأولئك هُمُ المهتدون } لطريق الصواب بالتسليم وقت صدمة المصيبة دون غيرهم ممن جزعوا عند صدمتها ، حتى صدر عنهم ما لم يأذن به الله .
هذا ، وفي فضل الصبر والصابرين وردت آيات كثيرة ، وأحاديث متعددة أما الآيات فيزيد عددها في القرآن على سبعين آية منها قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } وقوله { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقوله : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } وقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الأحاديث فمنها ما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراًمنها "
قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة : صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها : قالت : فتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها ما رواه الإِمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي . وإني لفي القبر أخذ بيدي أبو طلحة " يعني الخولاني " فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى - : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرةعينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال فماذا قال ؟ قال حمدك واسترجع . قال الله- تعالى - : " ابنوا لي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " .
ومنها ما رواه الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في ثواب الاسترجاع وفي أجر الصابرين وفضلهم .
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل :
( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون ) . .
صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
وبعد . . فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي . التعبئة في مواجهة المشقة والجهد ، والاستشهاد والقتل ، والجوع والخوف ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات . التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف .
إن الله يضع هذا كله في كفة . ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا . . صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . . إنه لا يعدهم هنا نصرا ، ولا يعدهم هنا تمكينا ، ولا يعدهم هنا مغانم ، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته . . لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها . فكان من ثم يجردها من كل غاية ، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته . . كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . . هذا هو الهدف ، وهذه هي الغاية ، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم ، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها .
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء . جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات . وجزاء على الخوف والجوع والشدة . وجزاء على القتل والشهادة . . إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء . أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور . .
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب ، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الصابرون الذين وصفهم ونعتهم عليهم ، يعني لهم صلوات يعني مغفرة . وصلوات الله على عباده : غفرانه لعباده ، كالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «اللّهُمّ صَلّ على آل أبي أوْفَى » يعني اغفر لهم . وقد بينا الصلاة وما أصلها في غير هذا الموضع .
وقوله : وَرَحْمَةٌ يعني ولهم مع المغفرة التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها رحمة من الله ورأفة .
ثم أخبر تعالى ذكره مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه تسليما منهم لقضائه من المغفرة والرحمة أنهم هم المهتدون المصيبون طريق الحقّ والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب . وقد بينا معنى الاهتداء فيما مضى فإنه بمعنى الرشد بالصواب . وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ قال : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند المصيبة ، كتب له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللّهُ مُصِيبَتَهُ ، وأحْسَنَ عُقْبَاهُ ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفا صَالِحا يَرْضَاهُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ يقول : الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير ، قال : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة : الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ ولو أعطيها أحد لأُعطيها يعقوب عليه السلام ، ألم تسمع إلى قوله : يا أسَفَى عَلَى يُوسُفَ .
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } الصلاة في الأصل الدعاء ، ومن الله تعالى التزكية والمغفرة . وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها . والمراد بالرحمة اللطف والإحسان . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه " { وأولئك هم المهتدون } للحق والصواب حيث استرجعوا وسلموا لقضاء الله تعالى .
الإتيان باسم الإشارة في قوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم } للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة ، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وهذا بيان لجزاء صبرهم .
والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] .
وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبىء عن محبة الخير لأحد ، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } [ البقرة : 3 ] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير ، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية .
وقوله : { وأولئك هم المهتدون } بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر ، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار ، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام ، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة ، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقوله : { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وقال في المنافقين : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [ النساء : 78 ] ، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة ، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية ، تعرض لعروض سببها ، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة ، وقد تكون لرفع درجات النفس ، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها ، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين .