{ 2-8 } { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا }
كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين ،
ولهذا قال هنا : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } الذي هو التوراة { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق .
{ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا } أي : وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ليعبدوا الله وحده وينيبوا إليه ويتخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الذين لا يملكون شيئا ولا ينفعونهم بشيء .
والواو فى قوله - تعالى - : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } ، استئنافية ، أو عاطفة على قوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى . . } والمراد بالكتاب : التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - والضمير المنصوب فى قوله : { وجعلناه } يعود إلى الكتاب .
وقوله { لبنى إسرائيل } متعلق بهدى .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ } و { أن } فى قوله { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } يصح أن تكون زائدة وتكون الجملة مقولة لقول محذوف ، والمعنى :
وآتينا موسى الكتاب من أجل أن يكون هداية لبنى إسرائيل إلى الصراط المستقيم .
وقلنا لهم : لا تتخذوا غير الله - تعالى - وكيلا ، أى : معبودا ، تفوضون إليه أموركم ، وتكلون إليه شئونكم ، فهو - سبحانه - : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } قال الإِمام الرازى ما ملخصه : قرأ أبو عمرو { ألا يتخذوا } بالياء خبرا عن بنى إسرائيل : وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب ، أى : قلنا لهم لا تتخذوا . ويصح أن تكون { أن } ناصبة للفعل فيكون المعنى : وجعلناه هدى لئلا تتخذوا . . . وأن تكون { أن } بمعنى أى التى للتفسير - أى هى مفسرة لما تضمنه الكتاب من النهى عن اتخاذ وكيل سوى الله - تعالى - .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً وآتى موسى الكتاب ، وردّ الكلام إلى وآتَيْنا وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب ، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه . وعنى بالكتاب الذي أوتى موسى : التوراة . وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ يقول : وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ ، ودليلاً لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم ، وأمرهم به ، ونهاهم عنه .
وقوله : ألاّ تَتّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ألاّ تَتّخِذُوا بالتاء بمعنى : وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل مِنْ دُونِي وَكيِلاً . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة : «ألاّ يَتّخِذُوا » بالياء على الخبر عن بني إسرائيل ، بمعنى : وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا يتّخذ بنو إسرائيل ، من دوني وكيلاً ، وهما قراءتان صحيحتا المعنى ، متفقتان غير مختلفتين ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب ، غير أني أوثر القراءة بالتاء ، لأنها أشهر في القراءة وأشدّ استفاضة فيهم من القراءة بالياء . ومعنى الكلام : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي . وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى . وكان مجاهد يقول : معناه في هذا الموضع : الشريك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ألاّ تَتّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً قال : شريكا .
وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له ، ووكيلاً للذي أقامه مقام الله . وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الاَية ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآتَيْنا مُوسَى الكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ جعله الله لهم هدى ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وجعله رحمة لهم .
عطف على جملة { سبحان الذي أسرى } [ الإسراء : 1 ] الخ فهي ابتدائية . والتقدير : الله أسرى بعبده محمد وآتى موسى الكتاب ، فهما منتان عظيمتان على جزء عظيم من البشر . وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة ذكر المسجد الأقصى . فإن أطوار المسجد الأقصى تمثل ما تطور به حالُ بني إسرائيل في جامعتهم من أطوار الصلاح والفساد ، والنهوض والركود ، ليعتبر بذلك المسلمون فيقتدوا أو يحذروا .
ولمناسبة قوله : { لنريه من آياتنا } [ الإسراء : 1 ] فإن من آيات الله التي أوتيها النبي آيَةَ القرآن ، فكان ذلك في قوة أن يقال : وآتيناه القرآن وآتينا موسى الكتاب ( أي التوراة ) ، كما يشهد به قوله بعد ذلك { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] أي للطريقة التي هي أقوم من طريقة التوراة وإن كان كلاهما هُدى ، على ما في حالة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام ليلاً ليرى من آيات الله تعالى من المناسبة لحالة موسى عليه السلام حين أوتي النبوة ، فقد أوتي النبوءة ليلاً وهو سار بأهله من أرض مدين إذ آنس من جانب الطور ناراً ، ولحاله أيضاً حين أسري به إلى مناجاة ربه بآيات الكتاب .
والكتاب هو المعهود إيتاؤُه موسى عليه السلام وهو التوراة . وضمير الغائب في جعلناه للكتاب ، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة لأن الهُدى بسبب العمل بما فيه فجُعل كأنه نفسُ الهدى ، كقوله تعالى في القرآن : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .
وخص بني إسرائيل لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم ، فالجعل الذي في قوله : { وجعلناه } هو جعل التكليف . وهم المراد ب « الناس » في قوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] ، لأن الناس قد يطلق على بعضهم ، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن يَنتفع بهديه من لم يكن مخاطباً بكتاب آخرَ ، ولذلك قال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] .
وقرأ الجمهور { ألا تتخذوا } بتاء الخطاب على الأصل في حكاية ما يحكى من الأقوال المتضمنة نهياً ، فتكون ( أنْ ) تفسيرية لما تضمنه لفظ ( الكتاب ) من معنى الأقوال ، ويكون التفسير لبعض ما تضمنه الكتاب اقتصاراً على الأهم منه وهو التوحيد . وقرأ أبو عمرو وحده بياء الغيبة على اعتبار حكاية القول بالمعنى ، أو تكون ( أنْ ) مصدرية مجرورة بلام محذوفة حَذفاً مطرداً ، والتقدير : آتيناهم الكتاب لئلا يتخذوا من دوني وكيلا .
والوكيل : الذي تفوض إليه الأمور . والمراد به الرب ، لأنه يتكل عليه العباد في شؤونهم ، أي أن لا تتخذوا شريكاً تلجؤون إليه . وقد عُرف إطلاق الوكيل على الله في لغة بني إسرائيل كما حكى الله عن يعقوب وأبنائه { فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } [ يوسف : 66 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وءاتينا موسى الكتاب}، يقول: أعطينا موسى التوراة،
{وجعلناه هدى}، يعني: التوراة هدى، {لبني إسرائيل} من الضلالة،
{ألا تتخذوا من دوني وكيلا} يعني: وليا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً وآتى موسى الكتاب... وعنى بالكتاب الذي أوتي موسى: التوراة.
"وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ" يقول: وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ، ودليلاً لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم، وأمرهم به، ونهاهم عنه.
وقوله: "ألاّ تَتّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً"... ومعنى الكلام: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي. وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى. وكان مجاهد يقول: معناه في هذا الموضع: الشريك...
وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له، ووكيلاً للذي أقامه مقام الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...كل كتاب من كتب الله هدى لمن استهدى ورشد لمن استرشد وبيان لمن استوضح، لأنها دعت إلى ثلاث خصال: دعت إلى معالي الأمور مكارم الأخلاق ومصالح الأعمال، ونهت عن ثلاث: عن مساوئ الأعمال وعن سفاسف الأمور ودناءة الأخلاق ورداءتها. ذكر أنه جعل الكتاب {هدى لبني إسرائيل} لأن منفعة الكتاب حصلت لهم لأنهم هم الذين استهدوا به. فعلى ذلك هو هدى لمن استهدى، والله أعلم.
{آلا تتخذوا من دوني وكيلا} أي معتمدا، أي قلنا لهم، أو ذكرنا لهم فيه، أو أمرنا فيه، {ألا تتخذوا من دوني وكيلا} أي معتمدا، موكولا. الوكيل: هو موكول الأمر إليه، معتمد في الأحوال عليه، قائم في جميع ما وكل إليه بالتبرع والتفضل...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
ثم ذكر أنه سبحانه أكرم موسى عليه السلام أيضا قبله بالكتاب فقال {وآتينا موسى الكتاب} التوراة {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} دللناهم به على الهدى {ألا تتخذوا} فقلنا لا تتخذوا... والمعنى لا تتوكلوا على غيري ولا تتخذوا من دوني ربا...
... حاصل الكلام في الآية: أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه، ثم وصف التوراة بكونها هدى، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلا، وذلك هو التوحيد، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غارقا في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله، فإن نطق، نطق بذكر الله، وإن تفكر، تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى، وإن طلب، طلب من الله، فيكون كله لله وبالله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد، صلوات الله وسلامه عليه، عطف بذكر موسى عبده وكليمه [عليه السلام] أيضًا، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام وبين ذكر التوراة والقرآن؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة {وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب {هُدًى} أي هاديًا {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا} أي لئلا تتخذوا {مِنْ دُونِي وَكِيلا} أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به عن نفسه المقدسة من عظيم القدرة على كل ما يريد، وما حباه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير، أتبعه ما منح في المسير من مصر إلى الأرض المقدسة من الآيات في مدد طوال جداً موسى عليه السلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمة ليلة الإسراء لما أرشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين، والذي كان أنهى العروج به إذ ناجاه الله وقربه رأس جبل الطور بعد الأمر بالرياضة بالصوم والتخلي أربعين يوماً، والذي تقدم في آخر النحل أن قومه اختلفوا عليه في السبت، تنفيراً من مثل حالهم، وتسلية عمن تبعهم في تكذيبهم وضلالهم، وذلك في سياق محذر للمكذبين عظائم البلاء، فقال تعالى -عاطفاً على ما تقديره، فآتينا عبدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكتاب المفصل المعجز، وجعلناه هدى للخلق كافة، وتولينا حفظه فكان آية باقية حافظاً لدينه دائماً: {وءاتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي الجامع لخيري الدارين لتقواه وإحسانه، معظماً له بنون العظمة، فساوى بين النبيين في تعظيم الإراءة والإيتاء وخص محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإضافة آياته إلى مظهر العظمة، وكان إيتاء موسى عليه السلام الكتاب في نيف وأربعين سنة بعد أن أخرج معه بني إسرائيل من حبائل فرعون وجنوده الذين كانوا لا يحصون كثرة بتلك الآيات الهائلة التي لا يشك عاقل أن من قدر عليها لا يمتنع عليه شيء أراده، وفي هذه المدة الطويلة- بل بزيادة -كان وصول بني إسرائيل من مصر إلى هذا المسجد الذي أوصلنا عبدنا إليه ورددناه إليكم في بعض ليلة راكباً البراق الذي كان يركبه الأنبياء قبله، يضع حافره في منتهى طرفه، وبنو إسرائيل كانوا يسيرون جميع النهار مجتهدين ثم يبيتون في الموضع الذي أدلجوا منه في التيه لا يقدرون أن يجوزوه أربعين سنة- على ما قال كثير من العلماء، أو أنهم كانوا في هذه المدة يدورون حول جبل أدوم كما في التوراة، فثبت أنا إنما نفعل بالاختيار على حسب ما نراه من الحكم، ثم ذكره ثمرة كتاب موسى عليه السلام فقال تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب، بما لنا من العظمة {هدى}. ولما كان هذا التنوين يمكن أن يكون للتعظيم يستغرق الهدى، بين الحال بقوله: {لبني إسرائيل} بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام، وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا... فقد بان الفصل بين الإسرائين كما بان الفصل بين الكتابين، فذكر الإسراء أولاً دليل على حذف مثله لموسى عليه السلام ثانياً، وذكر إيتاء الكتاب ثانياً دليل على حذف مثله أولاً، فالآية من الاحتباك؛ ثم نبه على أن المراد من ذلك كله التوحيد اعتقاداً وعبادة فنبه بصيغة الافتعال على أنه -لكثرة ما على وحدانيته من الدلائل، وله إلى خلقه من المزايا والفضائل- لا يعدل عنه إلى غيره إلا بتكلف عظيم من النفس، ومنازعة بين الهوى والعقل وما فطر سبحانه عليه النفوس من الانقياد إليه والإقبال عليه، ونفر من له همة علية ونفس أبية من الشرك بقوله منبهاً بالجار على تكاثر الرتب دون رتبة عظمته سبحانه وعد الاستغراق لها، تاركاً نون العظمة للتنصيص على المراد من دون لبس بوجه: {من دوني} وقال تعالى: {وكيلاً} أي رباً يكلون أمورهم إليه ويعتمدون عليه من صنم ولا غيره، لتقريب إليه بشفاعة ولا غيرها -منبهاً بذكر الوكالة على سفه آرائهم في ترك من يكفي في كل شيء إلى من لا كفاية عنده لشيء.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وآتينا مُوسَى الكتاب} أي التوراة وفيه إيماءٌ إلى دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعاً بين الأمرين المتّحدين في المعنى، ولم يُذكر هاهنا العروجُ بالنبي عليه السلام إلى السماء وما كان فيه مما لا يُكتنه كنهُه حسبما نطقتْ به سورةُ النجم تقريباً للإسراء إلى قَبول السامعين، أي آتيناه التوراةَ بعد من أسرَينا إلى الطور...
{مِن دوني وَكِيلاً} أي ربًّا تكِلون إليه أمورَكم، والإفرادُ لما أن فعيلاً مفردٌ في اللفظ جمعٌ في المعنى...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين،...
{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} أي: وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ليعبدوا الله وحده وينيبوا إليه ويتخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الذين لا يملكون شيئا ولا ينفعونهم بشيء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة. وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها؛ ودالت دولتهم بها. وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها، وفاقا لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها. وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها...
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى -التوراة- وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر -نوح- العبد الشكور، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة، ولم يحمل معه إلا المؤمنون: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا)... ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل. وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {سبحان الذي أسرى} [الإسراء: 1] الخ فهي ابتدائية. والتقدير: الله أسرى بعبده محمد وآتى موسى الكتاب، فهما منتان عظيمتان على جزء عظيم من البشر. وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة ذكر المسجد الأقصى. فإن أطوار المسجد الأقصى تمثل ما تطور به حالُ بني إسرائيل في جامعتهم من أطوار الصلاح والفساد، والنهوض والركود، ليعتبر بذلك المسلمون فيقتدوا أو يحذروا. ولمناسبة قوله: {لنريه من آياتنا} [الإسراء: 1] فإن من آيات الله التي أوتيها النبي آيَةَ القرآن، فكان ذلك في قوة أن يقال: وآتيناه القرآن وآتينا موسى الكتاب (أي التوراة)، كما يشهد به قوله بعد ذلك {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] أي للطريقة التي هي أقوم من طريقة التوراة وإن كان كلاهما هُدى، على ما في حالة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام ليلاً ليرى من آيات الله تعالى من المناسبة لحالة موسى عليه السلام حين أوتي النبوة، فقد أوتي النبوءة ليلاً وهو سار بأهله من أرض مدين إذ آنس من جانب الطور ناراً، ولحاله أيضاً حين أسري به إلى مناجاة ربه بآيات الكتاب...
وضمير الغائب في جعلناه للكتاب، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة لأن الهُدى بسبب العمل بما فيه فجُعل كأنه نفسُ الهدى، كقوله تعالى في القرآن: {هدى للمتقين} [البقرة: 2]... وخص بني إسرائيل لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم، فالجعل الذي في قوله: {وجعلناه} هو جعل التكليف. وهم المراد ب « الناس» في قوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس} [الأنعام: 91]، لأن الناس قد يطلق على بعضهم، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن يَنتفع بهديه من لم يكن مخاطباً بكتاب آخرَ، ولذلك قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44]...
وقد عُرف إطلاق الوكيل على الله في لغة بني إسرائيل كما حكى الله عن يعقوب وأبنائه {فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} [يوسف: 66]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأنه بهذا العطف يتبين أن شرائع الله متصلة وأن أنبياء الله تعالى مكرمون، كما أن الإسراء جمع النبيين عند بيت المقدس فقد جمعهم الله تعالى في التكريم هذا بالكتاب والإسراء والمعراج، وذاك بالكتاب الذي كان هداية لبني إسرائيل ألا يتخذوا شريكا...
(وآتينا) أي: أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء "51 "} (سورة الشورى): فليس في هذا الأمر مباشرة. و (الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإن أطلق دون أن يقترن بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم. والوحي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يعبر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم. ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل. والهدى: هو الطريق الموصل للغاية من أقصر وجه، وبأقل تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين. ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهدى لبني إسرائيل في قوله تعالى: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا "2 "} (سورة الإسراء): ففي هذه العبارة خلاصة الهدى، وتركيز المنهج وجماعه. والوكيل: هو الذي يتولى أمرك، وأنت لا تولي أحداً أمرك إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام به، وكان من توكله أحكم منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً. وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تلو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لتولي أمرك والقيام بشأنك، فربما وكلت واحداً منهم ففاجأك خبر موته. إذن: إذا كنت لبيباً فوكل من لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول: {وتوكل على الحي الذي لا يموت "58 "} (سورة الفرقان): ومادام الأمر كذلك، فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويبلغونك عن الله سبحانه. ولذلك الحق سبحانه يقول: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.." 86 "} (سورة الإسراء)
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وربما كان التعبير بالكتاب كما يذكر صاحب الميزان للإيحاء بالمعنى الذي قد يطلق عليه في كلامه تعالى، وهو «مجموع الشرائع المكتوبة على الناس، القاضية بينهم في ما اختلفوا فيه من الاعتقاد والعمل، ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية والعملية التي عليهم أن يأخذوها ويتلبّسوا بها»...
إن الحديث عن بني إسرائيل قد يكون على أساس أنهم قاعدة الانطلاق في حركة الرسالة، فهم الجماعة الأولى التي جاء موسى (عليه السلام) ليخلصها من ظلم فرعون، كمقدمة لتخليص الناس الآخرين من ظلمه وظلم أمثاله على أساس الشريعة. وتلك هي السنَّة الطبيعية لكلّ نبيٍّ أو مصلح، في ما يحمله من رسالة الوحي أو الإصلاح، فإنه يتحرك من قاعدة محدودةٍ، وهي قاعدة قومه أو محيطه، لينطلق منها إلى الآخرين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن أشارت الآية الأُولى في السورة إلى معجزة إسراء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كشفت آيات السورة الأُخرى، عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث، وأبانت استنكارهم لها، وعنادهم إِزاء الحق، في هذا الاتجاه انعطفت الآية الأُولى مِن الآيات مورد البحث على قوم موسى، ليقول لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ تأريخ النبوات واحد، وإِنَّ موقف المعاندين واحد أيضاً، وأنَّهُ ليس مِن الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك، وبين يديك الآن تأريخ بني إِسرائيل في موقفهم مِن موسى (عليه السلام)... ثمّ تشير الآية إلى الهدف مِن بعثة الأنبياء بما فيهم موسى (عليه السلام) فتقول: (ألا ّتتخذوا مِن دوني وكيلا). إِنَّ التوحيد في العمل هو واحدٌ مِن معالم أصل التوحيد، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول: لا تتكئ على أحد سوى اللّه، وإِنَّ أي اعتماد على غيره دلالة على ضعف الإِيمان بأصل التوحيد. إِنَّ أسمى معاني التجلّي في هداية الكتب السماوية، هو اشتعال نور التوحيد في القلوب والانقطاع عن الجميع والاتصال باللّه تعالى...