اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا} (18)

قوله - تعالى- : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ } الآية .

" مَنْ " شرطية ، و " عَجَّلنا " جوابها ، و " ما يشاءُ " مفعولها ، و " لِمنْ نُريد " بدل بعضٍ من كلٍّ ، من الضمير في " لَهُ " بإعادة العامل ، و " لِمَنْ نُريد " تقديره : لمن نريد تعجيله له .

[ قوله : ] " ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم " " جَعلَ " هنا تصييرية .

وقوله : " يَصْلاهَا " الجملة حال : إمَّا من الضمير في " لَهُ " وإمَّا من " جَهَنَّم " و " مَذمُوماً " حال من فاعل " يَصْلاها " قيل : وفي الكلام حذف ، وهو حذف المقابل ؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة ، وسعى لها سعيها ، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه ، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق .

ومعنى " يَصْلاهَا " : يدخلها .

" مَذمُوماً " : مطروداً ، " مَدْحُوراً " : مُبْعَداً .

وقوله : " سَعْيَهَا " : فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ؛ لأنَّ المعنى : وعمل لها عملها .

والثاني : أنه مصدر ، و " لهَا " أي : من أجلها .

والجملة من قوله : " وهو مُؤمِنٌ " هذه الجملة حال من فاعل " سَعَى " .

قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ } : " كُلاًّ " منصوب ب " نُمِدُّ " و " هؤلاء " بدل ، " وهؤلاءِ : عطف عليه ، أي : كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقدير جيدٌ ، وقال الزمخشري في تقديره : " كلَّ واحدٍ من الفريقين [ نُمِدُّ ] " . قال أبو حيان : " كذا قدَّره الزمخشري ، وأعربوا " هؤلاءِ " بدلاً من " كُلاًّ " ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ " كل " على تقدير : كلَّ واحدٍ ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ ، فينبغي أن يكون التقدير : كل الفريقين " .

و " مِنْ عطاءِ " متعلقٌ ب " نُمِدُّ " والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول .

والمحظور : الممنوعُ ، وأصله من الحظر ، وهو : جمعُ الشيء في حظيرة ، والحظيرة : ما يعمل من شجرٍ ونحوه ؛ لتأوي إليه الغنم ، والمحتظرُ : من يعمل الحظيرة .

فصل

قال القفال{[20300]} - رحمه الله - : هذه الآية داخلة في معنى قوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] : ومعناه : أن العمَّال في الدنيا قسمان :

منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عليه الصلاة والسلام- ، والدخول في طاعتهم ؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً ؛ لأنه في قبضة الله ؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله .

بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً ، مدحوراً مطروداً من رحمة الله .

وفي لفظ هذه الآية فوائد :

أحدها أنَّ العقاب{[20301]} عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة .

وثانيها : أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها ، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب .

وثالثها : قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا ، وعن الدِّين ، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .


[20300]:ينظر: الفخر الرازي 20/142.
[20301]:في أ: الخطاب.