البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا} (18)

و { العاجلة } هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ، ولا بد من تقدير حذف دل عليه المقابل في قوله : { من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } فالتقدير : من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر .

وقيل : المراد { من كان يريد العاجلة } بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة والذكر كما قال عليه السلام : « ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » وقال عليه الصلاة والسلام : « من طلب الدنيا بعمل الآخرة فما له في الآخرة من نصيب »

وقيل : نزلت في المنافقين وكانوا يغزون مع المسلمين للغنيمة لا للثواب ، و { من } شرط وجوابه { عجلنا له فيها ما نشاء } فقيد المعجل بمشيئته أي ما يشاء تعجيله .

و { لمن نريد } بدل من قوله : { له } بدل بعض من كل لأن الضمير في { له } عائد على من الشرطية ، وهي في معنى الجمع ، ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى ، فقيد المعجل بإرادته فليس من يريد العاجلة يحصل له ما يريده ، ألا ترى أن كثيراً من الناس يختارون الدنيا ولا يحصل لهم منها إلاّ ما قسمه الله لهم ، وكثيراً منهم يتمنون النزر اليسير فلا يحصل لهم ، ويجمع لهم شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة .

وقرأ الجمهور { ما نشاء } بالنون وروي عن نافع ما يشاء بالياء .

فقيل الضمير في يشاء يعود على الله ، وهو من باب الالتفات فقراءة النون والياء سواء .

وقيل يجوز أن يعود على من العائد عليها الضمير في { له } وليس ذلك عاماً بل لا يكون له ما يشاء إلاّ آحاد أراد الله لهم ذلك ، والظاهر أن الضمير في { لمن نريد } يقدر مع تقديره مضاف محذوف يدل عليه ما قبله ، أي لمن نريد تعجيله له أي تعجيل ما نشاء .

وقال أبو إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته وما قاله لا يدل عليه لفظ في الآية .

و { جعلنا } بمعنى صيرنا ، والمفعول الأول { جهنم } والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ، فنقول : جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و { يصلاها } حال من جهنم .

وقال أبو البقاء : أو من الضمير الذي في { له } .

وقال صاحب الغنيان : مفعول { جعلنا } الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى .

{ مذموماً } إشارة إلى الإهانة .

{ مدحوراً } إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله .