فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا} (18)

قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } هذا تأكيد لما سلف من جملة { كل إنسان ألزمناه } ، ومن جملة { من اهتدى } ، والمراد بالعاجلة : المنفعة العاجلة ، أو الدار العاجلة . والمعنى : من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك ، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون { عَجَّلْنَا لَهُ } أي : عجلنا لذلك المريد { فِيهَا } : أي : في تلك العاجلة ، ثم قيد المعجل بقيدين : الأوّل : قوله : { مَا نَشَاء } أي : ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها ، لا ما يشاؤه ذلك المريد ، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون ، ويتمنون ما لا يصلون إليه ، والقيد الثاني قوله : { لِمَن نُّرِيدُ } أي : لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا ، وجملة : { لمن نريد } بدل من الضمير في «له » بإعادة الجار بدل البعض من الكل ، لأن الضمير يرجع إلى «من » وهو للعموم ، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] . وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] . وقد قيل : إنه قرئ ( ما يشاء ) بالياء التحتية ، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ ، وعلى هذه القراءة فقيل : الضمير لله سبحانه ، أي : ما يشاؤه الله ، فيكون معناها معنى القراءة بالنون ، وفيه بعد لمخالفته لما قبله ، وهو { عجلنا } وما بعده وهو { لمن نريد } . وقيل : الضمير راجع إلى { من } في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } فيكون ذلك مقيداً بقوله { لمن نريد } : أي : عجلنا له ما يشاؤه ، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلاّ إذا أراد الله له ذلك . ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ، ولهذا قال : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } أي : جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه { يصلاها } في محل نصب على الحال أي : يدخلها { مَذْمُومًا مَدْحُورًا } أي : مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها ، فهذه عقوبته في الآخرة ، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له ، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع ، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه ، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه ، وهو الجنة ، ولهذا قال : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة } .

/خ24