{ ثم ارجع البصر كرتين } قال ابن عباس : مرة بعد مرة ، { ينقلب } ينصرف ويرجع ، { إليك البصر خاسئاً } صاغراً ذليلاً مبعداً لم ير ما يهوى ، { وهو حسير } كليل منقطع لم يدرك ما طلب . وروي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية من درة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة صفراء ، وقال : نحاس ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .
ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدي ، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }
و { الفطور } جمع فَطْر ، وهو الشق والصدع ، يقال : فطر فلان الشئ فانفطر ، إذا شقه ، وبابه نصر .
وقوله { كَرَّتَيْنِ } مثنى كرَّة ، وهي المرة من الكَرّ ، وهو الرجوع إلى الشيء مرة أخرى ، يقال كر المقاتل على عدوه ، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه .
والمراد بالكرتين هنا : معاودة النظر وتكريره كثيرا ، بدون اقتصار على المرتين ، فالتثنية هنا : كناية عن مطلق التكرير ، كما في قولهم : لبيك وسعديك .
وقوله : { خَاسِئاً } أي صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه .
وقوله : { حَسِيرٌ } بمعنى كليل ومتعب ، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص ، وفعله من باب قعد .
والمعنى : ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل . . فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به ، أو في أدنى شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهة .
والاستفهام فى قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } للتقرير : أي : إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن وشددت فى التفحص والتأمل . . فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت . .
وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } تعجيز إثر تعجيز ، وتحد فى أعقاب تحد . . أي : ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة ، فربما يكون قد فاتك شيء فى النظرة الأولى والثانية . . بل أعد النظر مرات ومرات . . فتكون النتيجة التي لا مفر لك منها ، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب . . لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } أي : إن رجعت البصر ، وكررت النظر ، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل ، وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور . . أي : بالبعد عن إصابة الملتمس .
فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين ؟
قلت : معنى التثنية هنا التكرير بكثرة ، كقولك لبيك وسعديك . .
فإن قلت : فما معنى { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ } ؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور . .
هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر فى هذا الكون الذي أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدي إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب . .
وقوله : ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ ، يقول جلّ ثناؤه : ثم ردّ البصر يا ابن آدم كرّتين ، مرّة بعد أخرى ، فانظر هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ أو تفاوت ، يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا يقول : يرجع إليك بصرك صاغرا مُبْعَدا من قولهم للكلب : اخسأ ، إذا طردوه أي ابعد صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : وهو مُعْيٍ كالّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْن يقول : هل ترى في السماء من خَللِ يَنْقَلِبْ إليكَ البَصَرُ خاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ بسواد الليل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله خاسئا وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : ذليلاً . . وقوله : وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مرجف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئا أي حاسرا وَهُوَ حَسيرٌ أي مُعْيٍ .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله خاسِئا قال : صاغرا ، وَهُوَ حَسِيرٌ يقول : مُعْيٍ لم ير خَلَلاً ولا تفاوتا .
وقال بعضهم : الخاسىء والحسير واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . . . الاَية ، قال : الخاسىء ، والخاسر واحد ، حَسَر طرفُه أن يَرى فيها فَطْرًا ، فرجع وهو حسير قبل أن يرى فيها فَطْرا ، قال : فإذا جاء يوم القيامة انفطرت ثم انشقت ، ثم جاء أمر أكبر من ذلك انكشطت .
وقال منذر بن سعيد : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر ، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ، ليرى فيها خللاً أو نقصاً ، فإن بصره ينقلب { خاسئاً } حسيراً ، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر .
وقوله : { كرتين } معناه مرتين ، ونصبه على المصدر ، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه ، ومنه الكلب الخاسئ ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : «اخسأ فلن تعد وقدرك »{[11204]} ، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم : { اخسؤوا فيها }{[11205]} [ المؤمنون : 108 ] ، وكذلك هنا البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك ، فينقلب { خاسئاً } ، والحسير العييّ الكالّ ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجا لم كن عوناً على النوى*** ولا زال منها طالح وحسير{[11206]}