قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } ، قال السدي : كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه ، حتى يبلغ المشركين ، وقال الزهري والكلبي : نزلت هذه الآية في أبي لبابة ، هارون بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عوف بن مالك ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك ، إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان مناصحاً لهم ، لأن ماله وولده وعياله كانت عندهم ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : يا أبا لبابة ما ترى ؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقة إنه الذبح ، فلا تفعلوا ، قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي في مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أبرح ، ولا أذوق طعاماً ، ولا شراباً ، حتى أموت أو يتوب الله عليّ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال : ( أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه ، فمكث سبعة أيام ، لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده ، ثم قال أبو لبابة : يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي كله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يجزيك الثلث فتصدق به فنزلت فيه { لا تخونوا الله والرسول } . قوله تعالى : { وتخونوا أماناتكم } ، أي : ولا تخونوا أماناتكم .
قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } ، أنها أمانة ، وقيل : وأنتم تعلمون أن ما فعلتم ، من الإشارة إلى الحلق خيانة ، قال السدي : إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم ، وقال ابن عباس : لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته ، { وتخونوا أمانتكم } . قال ابن عباس : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله ، والأعمال التي ائتمن الله عليها . قال قتادة : اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله عز وجل ما ائتمنكم عليه من فرائضه ، وحدوده ، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها .
27 - 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه ، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولافمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي الأمانة .
ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . الفضل العظيم } .
روى المفسرون في سبب نزول قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ } روايات منها :
ما جاء عن ابن عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى قريظة فقالوا له : يا أبا لباية ما ترى ؟ أنزل على حكم سعد بن معاذ فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه . أي أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا .
قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماى - عن مكانهما - حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله .
ومنها ما جاء عن جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار المسلمين .
ومنها ما جاء عن السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم يحدثون به المشركين . .
قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص ؛ فإن الأخذ بعمون اللفظ لا بخصوص السبب و المعتمد عند الجماهير من العلماء .
وقوله { لاَ تَخُونُواْ } من الخون بمعنى بمعنى النقص . يقال خونه تخويناً أى : نسبه إلى الخيانة ونقصه .
قال صاحب الكشاف : معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التام . ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ؛ لأنك إذا خنت الرجل في شئ فقد أدخلت عليه النقصان فيه . وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب - والكرب حبل يشد في رأس الدلو - وخان المشتار السبب . والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل - لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له .
والمقصود بخيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إهمال سسنه التي جاء بها وأمرنا بالتقدي بتعاليمها .
والمقصود بالأمانات : الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله } بأن تهملوا فرائضه ، وتتعدوا حدوده ، ولا تخونوا { والرسول } - صلى الله عليه وسلم - ، بأن تتركوا سنته وتتصرفوا إلى غيرها ، وتخالفوا ما أمركم به وتجترحوا ما نهاكم عنه ، ولا تخونوا { أَمَانَاتِكُمْ } بأن تفشوا الأسرار التي بينكم ، وتنقضوا العهود التي تعاهدتم على الوفاء بها ، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم ، وتستجيبوا ما يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية ، فقوله : { وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } معطوف على قوله { لاَ تَخُونُواْ } .
وأعاد النهى للإِشعار بأن كل واحد من المنهى عنه مقصود بذاته اهتماما به .
وقوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } الواو للحال ، والمفعول محذوف . أى . والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها ، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة في جميع صورها ؛ لتنالوا رضى الله ومئويته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.