اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } الآية .

لمَّا ذكر أنَّه رزقهم من الطَّيبات ، فههنا منعهم من الخيانةِ ، واختلفوا في تلك الخيانةِ .

فقال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم ، فقالوا : ما ترى لنا ، أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، إنَّه الذبح فلا تفعلوا ، فكان منه خيانة لله ورسوله{[17274]} .

وقال السديُّ " كانُوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم فيفشونه ويبلغونه إلى المشركين فنهاهم الله عز وجل عن ذلك " {[17275]} .

وقال ابن زيد : " نَهاهُم الله أن يخُونُوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ، ويسرون الكُفْرَ " {[17276]} .

وقال جابرُ بن عبد الله : " إنَّ أبا سفيان خرج من مكَّة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه ، وعزم على الذهاب إليه ، فكتب رجلٌ من المنافقين إليه أنَّ محمداً يريدكم ، فخذوا حذركم فنزلت الآية " {[17277]} . وقال الكلبيُّ والأصمُ والزهريُّ " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة لمَّا همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها " {[17278]} .

فصل

قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ " الخيانة " في القرآن بإزاء خمسة معانٍ :

الأول : أنَّ المراد بالخيانة : الذَّنب في الإسلام ، كهذه الآية ، لمَّا نزلت في أبي لبابة .

الثاني : الخيانة : السرقة ، قال تعالى : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] نزلت في طعمة ، لمَّا سرق الدرعين .

الثالث : نقض العهد ، قال تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] .

الرابع : الخيانة : المخالفة ، قال تعالى : { فَخَانَتَاهُمَا } أي : خالفتاهما في الدين ؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط .

الخامس : الخيانة : الزِّنا ، قال تعالى : { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } [ يوسف : 52 ] يعني : الزنا .

فصل

قال القاضي : " الأقربُ : أنَّ خيانة الله غير خيانة رسوله ، وخيانة الرَّسُولِ غير خيانة الأمانة ؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة " .

وإذا عرف ذلك فنقول : إنَّه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم ، وجعل ذلك خيانة للَّه ؛ لأنَّهُ خيانة لعطيته وخيانة لرسوله ؛ لأنه القيم بقسمها ، فمن خانها فقد خان الرَّسُول ، وهذه الغنيمة قد جعلها الله أمانة في أيدي الغانمين ، وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة .

والوديعة أمانةٌ في يد المودع ، فمن خان منهم فيها قد خان أمانة النَّاس .

إذ الخيانةُ ضد الأمانة .

قال : ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به ، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه الغنيمة وغيرها ، فكان معنى الآية : إيجاب أداء التكاليف تامة كاملة .

قال ابن عباس : " لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته{[17279]} " " وتخُونُوا أماناتِكُم " .

قال ابن عباس : " هي ما يخفى عن أعين النَّاس من فرائض الله تعالى{[17280]} " .

والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد المذكورة في سبب النُّزول داخلة فيها ، لكن لا يجب قصر الآية عليها لأنَّ العبرةَ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّببِ .

قال الزمخشريُّ " ومعنى الخون النقص ، كما أن معنى الوفاء التَّمام ، ومنه تخوَّنه إذا تنقصه ثم استعمل في ضد الأمانة ؛ لأنك إذا خُنتَ الرَّجُلَ في شيءٍ ، فقد أدخلت النُّقصان فيه " .

قوله : " وتَخُونُوا " يجوزُ فيه أن يكون منصوباً بإضمارِ " أنْ " على جواب النَّهي ، أي : لا تجمعوا بين الخيانتين .

كقوله : [ الكامل ]

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتِيَ مِثلَهُ *** عَارٌ علَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ{[17281]}

والثاني : أن يكون مجزوماً نسقاً على الأوَّل ، وهذا الثاني أولى ؛ لأن فيه النهي عن كلِّ واحدٍ على حدته بخلاف ما قبله فإنَّه نهيٌ عن الجمع بينهما ، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلٍّ واحدٍ على حدته ، وقد تقدَّم تحريره في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] أول البقرة .

و " أماناتكم " على حذف مضاف ، أي : أصحاب أماناتكم ، ويجوزُ أن يكونوا نهوا عن خيانة الأماناتِ مبالغةً كأنَّها جعلت مخونةً .

وقرأ مجاهدٌ{[17282]} ورويت عن أبي عمرو " أمَانتكُم " بالتَّوحيد ، والمراد الجمع .

وقوله : " وأنتُمْ تَعْلَمُونَ " جملة حالية ، ومتعلَّقُ العلم يجوزُ أن يكون مراداً أي : وأنتم تعلمون قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها ، ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر ، أي : وأنتم من ذوي العلمِ .

والعلم يحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون بمعنى العرفان .


[17274]:اخرجه الطبري في "تفسيره" (6/220) عن عبد الله بن أبي قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/323) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/242) عن الزهري والسدي.
[17275]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/221) وذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/242).
[17276]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/222) عن ابن زيد.
[17277]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/220) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/323) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.
[17278]:ذكره الرازي في "تفسيره" (15/122) عن الكلبي والزهري. وذكر البغوي عنهما (2/242) أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري.
[17279]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/221-222) ووذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/243).
[17280]:انظر المصادر السابقة.
[17281]:ينسب البيت للأخطل والطرماح وحسان والمشهور أنه لأبي الأسود الدؤلي. ينظر: الكتاب 3/42 وشذور الذهب 238، 312 والجنى الداني 157 والتصريح 2/238 وأوضح المسالك 4/181 والمؤتلف والمختلف 179 والمثل السائر 3/262 وشرح الحماسة للبحتري 173 والمقتضب 2/25 وابن يعيش 7/24، والمغني 1/361، والدر المصون 3/414.
[17282]:ينظر: المحرر الوجيز 2/518، البحر المحيط 4/480، الدر المصون 3/414.