41- واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه : أن يقسم خمسة أخماس ، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء ، والمساكين ، وهم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : وهو المنقطع في سفره المباح . والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته ، والإمام بعد وفاته ، وباقي الخُمس يصرف للمذكورين . أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهي للمقاتلين ، فاعلموا ذلك ، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً ، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد ، يوم الفرقان الذي فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان ، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر ، والله عظيم القدرة على كل شيء ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم ، وخذل الكافرين مع كثرتهم .
قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية . الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار ، فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما يختلفان ، فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : { فأن لله خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : { لله } افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل ، وهو قول الحسن ، وقتادة وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد ، والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف ، كم ذكر الله عز وجل .
قوله تعالى : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس لأربعة أصناف . قوله : { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة ، وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ، ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن ، عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ، وشبك بين أصابعه ) .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد ، وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً . قوله : { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و{ المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما : أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف ، أنا أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهماً له ، وسهمين لفرسه .
وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفاً على المصالح ، وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول ، ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه ) . والسلب : كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصه به من بين سائر الجيش ، ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم : إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل ، وأما الفيء ، وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدون ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له ، فهذا كله في فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله : { قدير } وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل ، واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهر ، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } [ التوبة :60 ] فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء } والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسر وحمير فنصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .
قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } ، قيل : أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله { يسألونك عن الأنفال }
قوله تعالى : { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان .
قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .
يقول تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ْ } أي : أخذتم من مال الكفار قهرا بحق ، قليلا كان أو كثيرا . { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ْ } أي : وباقيه لكم أيها الغانمون ، لأنه أضاف الغنيمة إليهم ، وأخرج منها خمسها . فدل على أن الباقي لهم ، يقسم على ما قسمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : للراجل سهم ، وللفارس سهمان لفرسه ، وسهم له .
وأما هذا الخمس ، فيقسم خمسة أسهم ، سهم للّه ولرسوله ، يصرف في مصالح المسلمين العامة ، من غير تعيين لمصلحة ، لأن اللّه جعله له ولرسوله ، واللّه ورسوله غنيان عنه ، فعلم أنه لعباد اللّه . فإذا لم يعين اللّه له مصرفا ، دل على أن مصرفه للمصالح العامة .
والخمس الثاني : لذي القربى ، وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب . وأضافه اللّه إلى القرابة دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة ، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ذكرهم وأنثاهم .
والخمس الثالث لليتامى ، وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم ، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم ، وقد فقد من يقوم بمصالحهم .
والخمس الرابع للمساكين ، أي : المحتاجين الفقراء من صغار وكبار ، ذكور وإناث .
والخمس الخامس لابن السبيل ، وهو الغريب{[345]} المنقطع به في غير بلده ، [ وبعض المفسرين يقول إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء بل ذلك تبع للمصلحة وهذا هو الأولى ]{[346]} وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان فقال : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ْ } وهو يوم { بدر ْ } الذي فرق اللّه به بين الحق والباطل . وأظهر الحق وأبطل الباطل .
{ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ْ } جمع المسلمين ، وجمع الكافرين ، أي : إن كان إيمانكم باللّه ، وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان ، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين ، ما دل على أن ما جاء به هو الحق . { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ْ } لا يغالبه أحد إلا غلبه .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم . . بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترب على قتال أعدائهم ، فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ . . . } .
وقوله : { غَنِمْتُمْ } من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشئ قال القرطبى ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإِياب
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى - : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر .
وسمى الشرع الواصل من الكافر إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا . فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعى وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة . ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا .
والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع ، وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف . كخراج الأرضين ، وزية الجماجم .
والمعنى : الاجمالى للآية الكريمة : { واعلموا } - أيها المسلمون - { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أى : ما أخذتموه من الكفار قهراً { فَأَنَّ للَّهِ } الذي منه - سبحانه - النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } أي خمس ما غنمتموه شكرا له على هذا النعمة { وَلِلرَّسُولِ } الذي هو سبب في هدايتكم { وَلِذِي القربى } أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمراد بهم على الراجح بن هاشم وبنو المطلب .
{ واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا .
{ والمساكين } وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .
{ وابن السبيل } وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده .
وقوله { واعلموا } معطوف على قوله قبل ذلك { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . } الخ و { مَا } في قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } موصولة والعائد محذوف .
وقوله : { مِّن شَيْءٍ } بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر .
أى : أن ما غنمتموه من شئ سواء أكان هذا الشئ قليلا أم كثيرا { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } .
وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسة والجار والمجرور خبر { أَنَّ } مقدم ، وخمسة اسمها مؤخر . والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذى القربى . . إلخ .
وأعيدت اللام في قوله { وَلِذِي القربى } دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لمزيد اتصالهم به .
وقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله . . . } شرط جزاؤه محذوف .
أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإِيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَ الفرقان } أي يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين . . إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول .
وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .
يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر .
وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شئ فعليهم أن يداموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله .
هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيره لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :
1- أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان .
قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بوادى القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم .
وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله - تعالى - وقسمه الباقى بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه . هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان . والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤمنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس بن أكثر من منفعة رجلين .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه - .
وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى - ، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة ، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما .
وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذى القربى واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله - تعالى - يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة .
وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم . ولو كان لله فيه سهم - كما قال ابو العالية - لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها .
فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا غير الذي ذكرناه من الخبر عن أبى العالية . وفى إجماع من ذكرت - الدلالة الواضحة على ما اخترناه .
وسهم النبى - صلى الله عليه وسلم - جعله الله - تعالى - له في قوله { وَلِلرَّسُولِ } كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء .
روى الإِمام أحمد " أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم . فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لى فيها إلا نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلو نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . ينجى الله به من الغم والهم " ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائى " عن عمور بن عبسة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إلى بعير من الغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لى من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردودة عليكم " .
هذا بالنسبة لسهمه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يكون لمن يلى الأمر من بعده . روى هذا عن أبى بكر وعلى قتادة وجماعة . .
ومنهم من يرى أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يصرف في مصالح المسلمين . روى ابن جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .
ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : ان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة اسهم على ما روى عن ابن عبسا : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله - تعالى - أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين . وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم . .
4- المراد بذى القربى - كما سبق أن أشرنا - بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح . وعليه فإن السهم المخصص لذى القربى لا يصرف إلى لهم .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :
أولها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب . " قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد . . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلق قال : " إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه " أخرجه البخارى والنسائى .
ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة . قاله مجاهد وعلى بن الحسين . وهو قول مالك والثورى والأوزاعى وغيرهم .
وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم سهم له - صلى الله عليه وسلم - للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للاصناف الثلاثة الباقية .
وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فسقط سهمه . . وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة . .
ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخمسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإِمام .
- أي انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على ما ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الأمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الاصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص .
ثم قال : ومذهب الإِمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله - تعالى - ، وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوى القربى الكل للإِمام القائم مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما الاسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وسهم لمساكينهم ، وسهم لآبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم .
رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر .
ثم قال : والظاهر أن الاسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القام مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته . .
هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو الى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإِمام واجتهاده . . ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلة المبسوطة في كتب الفروع .
5- ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في مطلع السورة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهى قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة .
أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الانفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه .
وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين .
6- الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعلوا غياتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكى يكونوا مؤمنين حقا .
ويشعر بهذا الإِرشاد تصديره - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } كما يشعر به قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان . . } ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله - تعالى - والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم - سبحانه - هذه النعم بفضله وإحسانه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } : قلت بمحذوف يدل عليه قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . ولس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله - تعالى - ، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر .
هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام اخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليه إن شئت .