المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

16- وإذا قدَّرنا في اللوح المحفوظ إهلاك أهل قرية حسب اقتضاء حكمتنا سلَّطنا المترفين فيها فأفسدوا فيها ، وخرجوا عن جادة الحق ، وأتبعهم غيرهم من غير أن يتبينوا ، وبذلك يحق عليها كلها العقاب ، فندمرها تدميراً شديداً .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

قوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها } ، قرأ مجاهد : أمرنا بالتشديد أي : سلطنا شرارها فعصوا ، وقرأ الحسن وقتادة و يعقوب أمرنا بالمد ، أي : أكثرنا . وقرأ الباقون مقصوراً مخففاً ، أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، ويحتمل أن تكون بمعنى أكثرنا ، يقال : أمرهم الله أي كثرهم الله . وفي الحديث : خير المال مهرة مأمورة أي كثيرة النسل . ويقال : منه أمر القوم يأمرون أمراً إذا كثروا ، وليس من الأمر بمعنى الفعل ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء . واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة . { مترفيها } منعميها وأغنياءها { ففسقوا فيها فحق عليها القول } ، وجب عليها العذاب ، { فدمرناها تدميراً } ، أي :خربناها وأهلكنا من فيها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكر ، حدثنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً وهو يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً } .

اختلف القرّاء في قراءة قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق أمَرْنا بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها . وإذا قرىء ذلك كذلك ، فإن الأغلب من تأويله : أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله ، وخلافهم أمره ، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس أمَرْنا مُتْرَفيها قال : بطاعة الله ، فعصوا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا شريك ، عن سلمة أو غيره ، عن سعيد بن جبير ، قال : أمرنا بالطاعة فعصوا .

وقد يحتمل أيضا إذا قرىء كذلك أن يكون معناه : جعلناهم أمراء ففسقوا فيها ، لأن العرب تقول : هو أمير غير مأمور . وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : قد يتوجّه معناه إذا قرىء كذلك إلى معنى أكثرنا مترفيها ، ويحتجّ لتصحيحه ذلك بالخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أوْ سِكّةٌ مَأْبُورَةٌ » ويقول : إن معنى قوله : مأمورة : كثيرة النسل . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين ينكر ذلك من قيله ، ولا يجيزنا أمرنا ، بمعنى أكثرنا إلا بمدّ الألف من أمرنا . ويقول في قوله «مهرة مأمورة » : إنما قيل ذلك على الاتباع لمجيء مأبورة بعدها ، كما قيل : «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غيرَ مَأْجُورَات » فهمز مأزورات لهمز مأجورات ، وهي من وزرت إتباعا لبعض الكلام بعضا . وقرأ ذلك أبو عثمان «أمّرْنا » بتشديد الميم ، بمعنى الإمارة .

حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم عن عوف ، عن أبي عثمان النهدي أنه قرأ : «أمّرْنا » مشدّدة من الإمارة .

وقد تأوّل هذا الكلام على هذا التأويل ، جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : «أمّرْنا مُترَفِيها » يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله : وكذلكَ جَعَلنا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، أنه قرأها : «أمّرْنا » وقال : سلّطنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي حفص ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : «أمّرْنا » مثقلة : جعلنا عليها مترفيها : مستكبريها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحرث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : «أمّرْنا مُترَفِيها » قال : بعثنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : «آمَرْنا » بمدّ الألف من أمرنا ، بمعنى : أكثرنا فسقتها . وقد وجّه تأويل هذا الحرف إلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل ، إلا أن الذين حدّثونا لم يميزوا لنا اختلاف القراءات في ذلك ، وكيف قرأ ذلك المتأوّلون ، إلا القليل منهم . ذكر من تأوّل ذلك كذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهِلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها » يقول : أكثرنا عددهم .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله : «آمَرْنا مُتْرَفِيها » قال : أكثرناهم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله أمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله أمَرْنا مُتْرَفيها يقول : أكثرنا مترفيها : أي كبراءها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ » يقول : أكثرنا مترفيها : أي جبابرتها ، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله فَدَمّرْناها تَدْميرا . وكان يقول : إذا أراد الله بقوم صلاحا ، بعث عليهم مصلحا . وإذا أراد بهم فسادا بعث عليهم مفسدا ، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة آمَرْنا مُتْرَفِيها قال : أكثرناهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على زينب وهو يقول : «لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَيْلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرَ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثُلُ هَذَا » وحلق بين إبهامه والتي تليها ، قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإذَا أرَدْنا أنْ نُهْلكَ قَرْيَةٍ أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها قال : ذكر بعض أهل العلم أن أمرنا : أكثرنا . قال : والعرب تقول للشيء الكثير أمِرَ لكثرته . فأما إذا وصف القوم بأنهم كثروا ، فإنه يقال : أمر بنو فلان ، وأمر القوم يأمرون أمرا ، وذلك إذا كثروا وعظم أمرهم ، كما قال لبيد .

إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا وَإنْ أَمَرُوا *** يَوْما يَصِيرُوا للقُلّ والنّفَدِ

والأمر المصدر ، والاسم الإمر ، كما قال الله جلّ ثناؤه لَقَدْ جِئْتَ شَيْئا إمْرا قال : عظيما ، وحكي في مثل شرّ إمْر : أي كثير .

وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ أمَرْنا مُتْرَفِيها بقصر الألف من أمرنا وتخفيف الميم منها ، لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها دون غيرها . وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها ، فحقّ عليهم القول : لأن الأغلب من معنى أمرنا : الأمر ، الذي هو خلاف النهي دون غيره ، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره .

ومعنى قوله : فَفَسَقُوا فِيهَا : فخالفوا أمر الله فيها ، وخرجوا عن طاعته فَحَقّ عَلَيْها القَوْلُ يقول : فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها ، وعيد لله الذي أوعد من كفر به ، وخالف رسله ، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج فَدَمّرْناها تَدْميرا يقول : فخرّبناها عند ذلك تخريبا ، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا ، كما قال الفرزدق :

وكانَ لَهُمْ كَبكْرِ ثَمُودَ لَمّا *** رَغا ظُهْرا فَدَمّرَهُمْ دَمارا

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

وقوله { وإذا أردنا أن نهلك قرية } الآية ، في مصحف أبي «بعثنا أكابر مجرميها » ، و «القرية » ، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وليست من قرأ الذي هو مهموز ، وإن كان فيها جمعاً معنى الجمع ، وقرأ الجمهور «أمَرنا » على صيغة الماضي من أمر ضد نهي ، وقرأ نافع ، وابن كثير في بعض ما روي عنهما ، «آمرنا » بمد الهمزة بمعنى كثرنا ، ورويت عن الحسن ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج ، وقرأ بها ابن إسحاق ، تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف : «أمّرنا » بتشديد الميم ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الطبري ، : القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير ، والثانية معناها كثرناهم ، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس ، قال القاضي أبو محمد : قال أبو علي الفارسي : الجيد في «آمرنا » أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها{[7500]} فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم{[7501]} ، قال «وآمرنا » مبالغة في «أمرنا » بالهمزة ، و «أمّرنا » مبالغة فيه بالتضعيف ، ولا وجه لكون «أمّرنا » من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحداً بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم .

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة ، وسواهم تبع لهم وأما «أمّرنا » من الإمارة فمتوجه على وجهين ، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم ، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكاً هو أميره ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]

إذا كان هادي الفتى في البلاد . . . صدر القناة أطاع الأميرا{[7502]}

ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص ، إن علي أميراً لا أقطع أمراً دونه ، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره ، ومنه قول الآخر : [ الكامل ]

والناس يلحون الأمير إذ هم . . . خطئوا الصواب ولا يلام المرشد{[7503]}

وأيضاً فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى ، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفاً ففسق ثم ولي مثله بعده ، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم{[7504]} ، وقرأ الحسن ويحيى بن عمر «أمِرنا » بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس ، ولا أتحقق وجهاً لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه ، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا ، ومنه قول لبيد :

إن يغبُطوا يهبطوا وإن أمروا . . . يوماً يصيروا للقل والنفد{[7505]}

ومنه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة{[7506]} ، ورد القراء هذه القراءة ، وقد حكي أمر متعدياً عن أبي زيد الأنصاري ، و «المترف » الغني من المال المتنعم ، والترفه النعمة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها » ، وقوله { فحق عليها القول } أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم ، والتدمير الإهلاك ، مع طمس الآثار وهدم البناء ، ومنه قول الفرزدق : [ المتقارب ]

وكان لهمْ ككبرِ ثمود لمّا . . . رغا دهراً فدمرهم دمارا{[7507]}


[7500]:شترت عينه: انشقت، وشترتها: شققتها وجعلتها شتراء.
[7501]:استدل أبو عبدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث الشريف: (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة )، أي: خير المال مهرة كثيرة النسل، وسكة - أي طريقة مصطفة من النخل – مأبورة، أي ملقحة. وقد أنكر بعض العلماء هذا، وقالوا: إنما قيل: (مأمورة)، على الإتباع، لمجيء (مأبورة) بعدها، كما جاء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، فقد همزت (مأزورات) لأن (مأجورات) جاءت بعدها مهموزة.
[7502]:البيت من قصيدة للأعشى يمدح هوذة بن علي الحنفي، وفي مطلعها يقول: غشيت لليلى بليل خدورا وطالبت ونذرت النذورا والهادي: المرشد، والقناة هنا: العصى التي يحملها الأعمى ليتجسس بها الطريق، يقول: إذا كبر الفتى وأصابه العمى، واعتمد على عصاه في سيره فإنه يطيع كل من يأمره أو ينصحه بأمر في سيره، فقد جعل النصيحة هنا أمرا، وجعل المرشد الناصح أميرا، لأنه يأمر فيطاع.
[7503]:يلحون: يلومون ويشتمون أو ينازعون ويخاصمون، وفي الحديث: (نهيت عن ملاحاة الرجال)، أي: نهيت عن مخاصمتهم ومنازعتهم، وخطيء الرجل يخطأ خطأ على فعلة: أذنب. يقول: إن الناس يلومون الناصح الذي يرشدهم عندما يخطئون، وهذا عيب كبير فيهم فإن من العقل ألا يلام الناصح المرشد، فقد سمي الناصح أميرا.
[7504]:في صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم)، فالعذاب يعم، وهو للفاسقين نقمة، وللمؤمنين طهرة.
[7505]:قال لبيد هذا البيت من قصيدة يرثي بها أربد بن قيس بن جزء، وكان أخا للبيد من الأم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل، وجابر بن سلمى، وعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يسلموا، وتوفي عامر بالطاعون، وأصابت أربد صاعقة فأحرقته. ويروى البيت: "يصيروا للهلك والنكد"، ويروى: "يوما فهم للفناء والنفد"، والغبطة: تمني مثل ما للإنسان من النعمة من غير أن يراد زوالها عنه. ويهبطوا: يموتوا، وأمروا: كثروا، والقل: القلة، والنفد : الفناء. والشاهد أن أمروا بمعنى: كثروا.
[7506]:كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم "ابن أبي كبشة"، شبهوه بأبي كبشة، وهو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان، أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم لأمه، لأنه كان ينزع إليه في الشبه، وقيل: هي كنية زوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم. والذي قال ذلك هو أبو سفيان بن حرب، قال: "لقد أمر أمْرُ ابن أبي كبشة وارتفع شأنه".
[7507]:البيت من قصيدة قالها يرد على جرير فيناقضه، وقبله يقول- وهو مطلع القصيدة: - جر المخزيات على كليب جرير ثم ما منع الدمارا والبكر: الفتي من الإبل، ويريد به هنا الفصيل الذي خرج لثمود بعد أن عقروا أمه الناقة التي جعلها الله هي وابنها آية لثمود، وجعل الماء قسمة بينهم وبين الناقة، فلما عقروها خرج عليهم الفصيل فرغا، وكانت النتيجة هي دمارهم عن آخرهم، يشبه جريرا في قومه كليب بهذا الفصيل في ثمود.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

هذا تفصيل للحكم المتقدم قُصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم . وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين . فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة ، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام ، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل .

فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين .

والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمراً بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول .

ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته . وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله : { أمرنا مترفيها } إلى آخره .

ومتعلق { أمرنا } محذوف ، أي أمرناهم بما نأمرهم به ، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم .

واعلم أن تصدير هذه الجملة ب ( إذا ) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط ( إذا ) وجملة جوابِه ، لأن شأن ( إذا ) أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها . فاقتضى ظاهر موقع ( إذا ) أن قوله : { أمرنا مترفيها } هو جواب ( إذا ) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سَبْقَ الشرط لجوابه ، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم ، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرُهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم ، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس . وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه ، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم .

وقرينة السياق واضحة في هذا ، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل { أمرنا مترفيها } على { نبعث رسولاً } فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت ، فيكون أصل نظم الكلام هكذا : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم .

فكانَ { وإذا أردنا أن نهلك قرية } شريطة لحصول الإهلاك ، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له ، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله : { أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } [ آل عمران : 127 128 ] وقوله : { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } [ الأعراف : 100 ] وقوله : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } [ الإنسان : 28 ] وقوله : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الإسراء : 18 ] . فذُكر شريطة المشيئة مرتين .

وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله .

وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثَمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة ، وهي متفاوتة ، وأقربُها قول من جعل جملة { أمرنا مترفيها } إلخ صفةً ل { قرية } وجعل جواب ( إذا ) محذوفاً .

والمترَفُ : اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه التُرفةَ . بضم التاء وسكون الراء أي النعمة . والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش ، وهم معظم أهل الشرك بمكة . وكان معظم المؤمنين يومئذٍ ضعفاء قال الله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمّل : 11 ] .

وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس ، لأن عصيانهم الأمرَ الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومهم إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم ، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك .

وقرأ الجمهور { أمرنا } بهمزة واحدة وتخفيف الميم ، وقرأ يعقوب { آمرنا } بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل ، أي جعلناهم آمرين ، أي داعين قومهم إلى الضلالة ، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفاً تخفيفاً ، أو الألف ألف المفاعلة ، والمفاعلةُ مستعملة في المبالغة ، مثل عافاه الله .

والفسق : الخروج عن المقر وعن الطريق . والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } في سورة [ البقرة : 26 ] .

و{ القول } هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال : { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } [ الصافات : 31 ] .

والتدمير : هدم البناء وإزالة أثره ، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وتقدم التدمير عند قوله تعالى : { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } في سورة [ الأعراف : 137 ] . وتأكيد دمرناها بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز .