التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

هذا تفصيل للحكم المتقدم قُصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم . وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين . فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة ، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام ، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل .

فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين .

والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمراً بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول .

ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته . وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله : { أمرنا مترفيها } إلى آخره .

ومتعلق { أمرنا } محذوف ، أي أمرناهم بما نأمرهم به ، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم .

واعلم أن تصدير هذه الجملة ب ( إذا ) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط ( إذا ) وجملة جوابِه ، لأن شأن ( إذا ) أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها . فاقتضى ظاهر موقع ( إذا ) أن قوله : { أمرنا مترفيها } هو جواب ( إذا ) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سَبْقَ الشرط لجوابه ، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم ، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرُهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم ، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس . وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه ، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم .

وقرينة السياق واضحة في هذا ، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل { أمرنا مترفيها } على { نبعث رسولاً } فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت ، فيكون أصل نظم الكلام هكذا : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم .

فكانَ { وإذا أردنا أن نهلك قرية } شريطة لحصول الإهلاك ، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له ، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله : { أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } [ آل عمران : 127 128 ] وقوله : { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } [ الأعراف : 100 ] وقوله : { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } [ الإنسان : 28 ] وقوله : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الإسراء : 18 ] . فذُكر شريطة المشيئة مرتين .

وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله .

وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثَمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة ، وهي متفاوتة ، وأقربُها قول من جعل جملة { أمرنا مترفيها } إلخ صفةً ل { قرية } وجعل جواب ( إذا ) محذوفاً .

والمترَفُ : اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه التُرفةَ . بضم التاء وسكون الراء أي النعمة . والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش ، وهم معظم أهل الشرك بمكة . وكان معظم المؤمنين يومئذٍ ضعفاء قال الله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمّل : 11 ] .

وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس ، لأن عصيانهم الأمرَ الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومهم إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم ، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك .

وقرأ الجمهور { أمرنا } بهمزة واحدة وتخفيف الميم ، وقرأ يعقوب { آمرنا } بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل ، أي جعلناهم آمرين ، أي داعين قومهم إلى الضلالة ، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفاً تخفيفاً ، أو الألف ألف المفاعلة ، والمفاعلةُ مستعملة في المبالغة ، مثل عافاه الله .

والفسق : الخروج عن المقر وعن الطريق . والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } في سورة [ البقرة : 26 ] .

و{ القول } هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال : { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } [ الصافات : 31 ] .

والتدمير : هدم البناء وإزالة أثره ، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وتقدم التدمير عند قوله تعالى : { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } في سورة [ الأعراف : 137 ] . وتأكيد دمرناها بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز .