تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 ) }

التفسير :

16- { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } .

المترفون في كل أمة هم : طبقة الكبراء المتجبرين الذين يجدون المال والخدم والراحة وينعمون بالدعة ؛ حتى تترهل نفوسهم وتأسن فترتع في المجانة والفسق ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم ؛ عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة وأشاعوها ومن ثم تتحلل الأمة وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوي صفحاتها .

والإسلام يفرق بين الغنى والترف ، فإذا كنا في مجتمعنا نعمل من أجل ( الكفاية ) فحن نحارب ( الترف ) في نفس الوقت .

إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسننا لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته ، فالقانون الذي يمكن أن نخرج به من آيات متعددة من كتاب الله هو ارتباط الترف بالإفساد ، وهؤلاء المترفون من أشد من يقاوم الحق والتغيير في المجتمع . ويقول الله تعالى هذا في قاعدة شاملة في القرآن : { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا كان مترفوها إنّا بما أُرسلتم به كافرون } . ( سبأ : 34 ) .

ولقد ذكر : الله الترف في ثمانية مواضع من كتابه الكريم ليس فيها واحد في مجال المدح أو الإطراء ، وإنما ترتبط بالظلم والفسق والإفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة .

والآية التي نشرحها تقرر : سنة من سنن الله في هذا الوجود وهي : أن الله تعالى إذا قدر لقرية أنها هالكة ؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك ؛ فكثر فيها المترفون ، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ؛ سلط الله هؤلاء المترفين ، ففسقوا فيها فعم فيها الفسق فتحللت وترهلت وفقدت لباسها الحربي والتمسك بدينها ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الهلاك والدمار ، وهي المسئولة عما يحل بها ؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين .

فوجود المترفين ذاته : هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ؛ ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ؛ ما استحقت الهلاك وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .

ووجود المترفين دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا ، وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .

فالإرادة هنا ليس معناها : أن الله يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم ، فإن إرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار- كالأضرار كذلك- مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة ، كما أن الأمر ليس أمرا بالفسق ؛ لأن الله لا يأمر بالفسق ولا يأمر بالفحشاء .

فالإرادة هنا في الآية ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب ، الأمر الذي لا مفر منه ؛ لأن السنة جرت به ، والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق ، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .

وجميع علماء الكلام متفقون على أن أفعال العباد الاختيارية صادرة بمجموع الإرادتين والقدرتين بإرادة العبد وقدرته تسببا وكسبا ، وبإرادة الله وقدرته خلقا وإيجادا وتقديرا . وأن سنة الله في خلقه جرت بربط تعلق إرادته وقدرته بفعل العبد على إرادة لعبد وقدرته ، كما اتفقوا على أن تعلق إرادة الله وقدرته تابع لعمله الذي لا يتخلف . فما علم أنه يكون تتعلق به إرادته وقدرته تعالى بكونه وإيجاده وإلا لانقلب العلم جهلا وهو محال عليه تعالى .

{ فدمرناها تدميرا } . والتدمير : الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء فالآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه ، وإهلاك جميعهم لصدور الفسق عنهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة . وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه : { واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة } ( الأنفال : 25 ) .

وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول : ( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ! وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ) . قالت زينب : قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم ، إذا كثر الخبيث ) فتبعة الجماعة تظهر في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها ، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرا تدميرا .

هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح قرنا بعد قرن كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير .