غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

1

ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدوراً لا يحتمل النقيض من ذلك قوله :{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } .

وللمفسرين في معنى { أمرنا } قولان : الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثرون على أن الطاعة والخير . وقال في الكشاف : معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا . ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق ههنا مجاز ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكان إيتاء النعمة سبباً لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك . ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب ، ولم يجوّز أن تكون من قبيل " أمرته فعصاني " فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة . ولقائل أن يقول : كما أن قوله " أمرته فعصاني " يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله : " أمرته ففسق " يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله . القول الثاني إن معنى : { أمرنا مترفيها } أكثرنا فساقها . قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم . إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضاً بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " فالسكة النخيل المصطفة ، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج . وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها : كوني كثيرة النسل فكانت ، " وروي أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً . فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر " أي سيكثر وسيكبر . والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش : { ففسقوا فيها } خرجوا عما أمرهم الله { فحق عليها القول } استوجبت العذاب { فدمرناها تدميراً } أهلكناها على سبيل الاستئصال . قال الأشاعرة : ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله : { فحق عليها القول } أي بالكفر ثم التعذيب . وقال الكعبي : إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [ الرعد : 11 ] وقوله : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك .

قال في التفسير الكبير : أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين : الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحداً بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم . الثاني أن نقول : وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي .

وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب ، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صباً . وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة ، وإذا أراد التاجر يريد أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة . ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر ، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك ، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية . وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف ، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر .

/خ21