نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

ولما أشار إلى عذاب المخالفين ، قرر أسبابه وعرف أنها بقدره ، وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب ، لبناء الأمر على ما يتعارفه ذوو العقول بينهم فقال تعالى : { وإذا } أي فنبعث الرسل بأوامرنا ونواهينا ، وإذا أردنا أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ، ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقيد باتباع رسلنا ، وإذا { أردنا } وإرادتنا لا تكون إلا عظيمة جداً { أن نهلك } أي بعظمتنا { قرية } في الزمن المستقبل { أمرنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على مخالفتها { مترفيها } الذين لهم الأمر والنهي بالفسق ، أي استدرجناهم بإدرار النعم ودفع النقم على ما يعملون من المعاصي ، الذي كان - بكونه سبباً لبطرهم ومخالفتهم - كالأمر بالفسق { ففسقوا فيها } بعد ما أزال الرسول معاذيرهم بتبليغ الرسالة كما قال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به }[ الأنعام :44 ] - أي على ألسنة الرسل -{ فتحنا عليهم أبواب كل شيء }[ الأنعام : 44 ] الآية{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها }[ الأنعام : 123 ] وخص المترفين لأن غيرهم لهم تبع ، ولأنهم أحق الناس بالشكر وأولى بالانتقام عند الكفر ، ويجوز أن يكون : أمرناهم بأوامرنا ففسقوا فيها ، أي الأوامر بالطاعات التي يعلم قطعاً أن أوامرنا تكون بها ولا تكون بغيرها ، لأنا لا نأمر بالفحشاء ، وقد جرت العادة بأن المترف عسر الانقياد ، لا تكاد تسمح نفسه بأن يصير تابعاً بعدما كان متبوعاً ، فعصوا فتبعهم غيرهم لأن الأصاغر تبع للأكابر فأطبقوا على المعصية فأهلكناهم ، وقرأ يعقوب : آمرنا - بمد الهمزة بمعنى كثرنا ، من آمرت الشيء وأمرته فأمر - إذا كثرته ، وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " أي كثيرة النتاج ؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية : آمر بنو فلان . والكثرة راجعة إلى الأمر الذي هو ضد النهي ، فإنه نتيجة العز الذي هو لازم الكثرة ، ويجوز أن يكون من المؤامرة ، أي أمرناهم بأوامرنا فما امتثلوا وأمرونا بأوامرهم ، أي سألونا ما يريدون فأعطيناهم ذلك استدراجاً فأبطرهم نيل الأماني ففسقوا { فحق } أي وجب وجوباً لا شك في وقوعه { عليها القول } الذي توعدناهم به على لسان الرسول بمباشرة البعض للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب عليه استحق العقاب { فدمرناها } أي أهلكناها إهلاكاً شديداً بغتة غير مبالين بها فجعلناها كالمدرة المفتتة ، وكان أمرها على عظمتنا هيناً ، ولذلك أكد فقال تعالى : { تدميراً * } .