قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة } الآية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها ، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح ! أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل ؟ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ ، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم ، وخشوا أن يكون ذلك فساداً واختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال : " حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع البويرة " ، فنزلت : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } ، أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله . { وليخزي الفاسقين } واختلفوا في اللينة ، فقال قوم : النخل كلها لينة ما خلا العجوة ، وهو قول عكرمة وقتادة ، ورواه زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة " وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر : الألوان ، واحدها لون ولينة . وقال الزهري : هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية . وقال مجاهد وعطية : هي النخل كلها من غير استثناء . وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم : هي لون من النخل . وقال سفيان : هي كرام النخل . وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون ، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج يغيب فيها الضرس ، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم ، وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف ، وأحب إليهم من وصيف ، فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد في الأرض وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائماً هو لمن غلب عليها ، فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني بني النضير فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جمعيا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ } قال : يذكر ربهم أنه نصرهم ، وكفاهم بغير كراع ، ولا عدّة في قريظة وخيبر ، ما أفاء الله على رسوله من قريظة ، جعلها لمهاجرة قريش .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }قال : أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها . قال : والإيجاف : أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان من ذلك خيبر وَفدَك وقُرًى عَرَبيةً ، وأمر الله رسوله أن يعد لينبع ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلا قسّمها ، فأنزل الله عزّ وجلّ عذره ، فقال : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْل القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَاليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ثم قال : وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا . . . }الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ }يعني يوم قُرَيظة .
وقوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاء }أعلمك أنه كما سلّط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير ، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجِفِ المسلمون بالخيل والركاب ، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى . يقول : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة ، ، فتقع فيها القسمة { وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }يقول : والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يَعجزه شيء ، وبقُدرته على ما يشاء سلّط نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير ، فحازه عليهم .
وقوله : { ما قطعتم من لينة } سببها أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا أيديهم في نخل بني النضير يقطعون ويحرقون ، فقال بنو النضير : ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فكف عن ذلك بعض الصحابة وذلك في صدر الحرب معهم ، فنزلت الآية معلمة أن جميع ما جرى من قطع أو إمساك { فبإذن الله } ، وردت الآية على قول بني النضير ، إن محمداً ينهى عن الفساد وها هو ذا يفسد فأعلم الله تعالى أن ذلك بإذنه ، { ليخزي به الفاسقين } من بني النضير ، واختلف الناس في اللينة ، فقال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون : اللينة النخلة اسمان بمعنى واحد وجمعها لين وليان ، قال الشاعر [ امرؤ القيس ] [ المتقارب ] :
وسالفة كسحوق الليان . . . أضرم فيها الغوي السعر{[11020]}
طراق الخوافي واقع فوق لينة . . . ندى ليله في ريشه يترقرق{[11021]}
وقال ابن عباس وجماعة من اللغويين : اللينة من النخل ما لم يكن عجوة . وقال سفيان بن سعيد الثوري : اللينة الكريمة من النخل ، وقال أبو عبيدة فيما روي عنه وسفيان : اللينة : ما تمرها لون وهو نوع من التمر ، يقال له اللون ، قال سفيان ، هو شديد الصفرة يشف عن نواة من التمر فيرى من خارج ، وأصلها لونة فأبدلت لموافقة الكسرة ، وقال أيضاً أبو عبيدة اللين : ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني . وقرأ ابن مسعود والأعمش : «أو تركتموها قوماء على أصولها » .