اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّينَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيُخۡزِيَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (5)

قوله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } .

«ما » شرطية في موضع نصب ب «قطعتم » ، و«من لينة » بيان له ، و«فبإذن الله » جزاء الشرط ، فلا بد من حذف ، أي : فقطعها بإذن الله ، فيكون «بإذن الله » الخبر لذلك المبتدأ{[55859]} .

واللِّيْنة : فيها خلاف كبير{[55860]} .

قيل : هي النَّخْلة مطلقاً .

وأنشد الشاعر في ذلك : [ الطويل ]

كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ *** عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا{[55861]}

وقال ذو الرمة : [ الطويل ]

طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ *** نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ{[55862]}

وقيل : هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة . قاله الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والخليل .

وقيل : ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة ، وهو قول أبي عبيدة .

قال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق : الفَحْل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي{[55863]} .

وقيل : هي النَّخْلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض .

وأنشد الأخفش رحمة الله عليه : [ الخفيف ]

قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى *** بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ{[55864]}

وقال سفيان بن عيينة : هي ضرب من النخل ، يقال لثمره : اللَّون . تمره أجود التَّمر ، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضِّرْس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف .

وقيل : هي الفَسِيْلة ؛ لأنها ألينُ من النخلة .

وأنشد : [ الخفيف ]

غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ *** ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ{[55865]}

وقيل : اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة ، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم .

وقال الأصمعي : إنها الدَّقَل . قال : وأهل «المدينة » يقولون : لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل .

قال ابن العربي{[55866]} : «والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك » .

وفي عين «لينة » قولان{[55867]} :

أحدهما : أنها «واو » ؛ لأنها من اللون ، وإنما قلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها ك «ديمة » و«قيمة » .

الثاني : أنها «ياء » ؛ لأنها من اللين .

وجمع اللينة «لين » ؛ لأنه من باب اسم الجنس ك «تمرة ، وتمر » .

وقد كسر على «ليان » وهو شاذّ ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك «رطبة ورطب وأرطاب » .

وأنشد : [ المتقارب ]

وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا *** نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ{[55868]}

والضمير في قوله «تَرَكْتُمُوهَا » عائد على معنى «ما »{[55869]} .

قوله : «قَائِمَةً » .

قرأ عبد الله والأعمش وزيد{[55870]} بن علي : «قُوَّماً » على وزن «ضُرَّباً » جمع «قائم » مراعاة لمعنى «ما » فإنه جمع .

وقرأ{[55871]} عبد الله ، { ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها } أي : لم تقطعوها .

وقرئ{[55872]} : «قَائِماً » مفرداً مذكراً .

وقوله : { أُصُولِهَا } .

قرئ : «أصْلها »{[55873]} بغير «واو » ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع «أصل » نحو : «رَهْن ورُهُن » .

والثاني : أن يكون حذف الواو استثقالاً لها ، واكتفى بالضمة عن «الواو » .

فصل في نزول الآية :

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بنو النضير ، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك ، وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح ، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل ؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً ، واختلفوا في ذلك .

فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا .

وقال بعضهم : بل نُغيظهم بقطعها ، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم{[55874]} .

وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي «البُويرة » ، فنزل : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله }{[55875]} أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه «فبإذْنِ الله » أي : بأمره { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .

و«اللام » في «ليخزي » متعلقة بمحذوف أي : أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين{[55876]} .

فصل في هدم حصون الكفار

احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم{[55877]} .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال{[55878]} .

وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر : قطعتها غيظاً على الكُفَّار{[55879]} .

واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الماوردي رحمه الله{[55880]} : في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب .

وقال إلكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط .

قال ابن العربي{[55881]} : وهذا باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار ، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ ، وذلك قوله - عز وجل - : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .


[55859]:ينظر: الدر المصون 6/293.
[55860]:ينظر: القرطبي 18/8.
[55861]:قائله ذو الرُّمة، ينظر ديوانه (85)، والكشاف 4/81، والسراج المنير 4/241، والدر المصون 6/293.
[55862]:تقدم.
[55863]:ينظر: النكت والعيون 5/502.
[55864]:ينظر: القرطبي 17/8.
[55865]:ينظر: القرطبي 17/8، والبحر 8/243، والدر المصون 6/394.
[55866]:ينظر: أحكام القرآن 4/1769.
[55867]:ينظر: الدر المصون 6/294.
[55868]:قائله هو امرؤ القيس، ويروى "السمر" مكان "السعر". ينظر ديوانه ص 165، وإعراب القرآن للنحاس 4/391، واللسان (سحق) ومجمع البيان 9/385، والقرطبي 18/8، والمعاني الكبير ص 17.
[55869]:ينظر: الدر المصون 6/294.
[55870]:ينظر: المحرر الوجيز 5/285، والبحر المحيط 8/244، والدر المصون 6/294، والقرطبي 18/8.
[55871]:ينظر: القرطبي 18/8.
[55872]:ينظر الكشاف 4/501، والبحر المحيط 8/244، والدر المصون 6/294.
[55873]:ينظر: البحر المحيط 8/244، والدر المصون 6/294.
[55874]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/33)، من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان وذكره البغوي في "تفسيره" (4/315).
[55875]:أخرجه البخاري (8/497)، كتاب التفسير، باب: "ما قطعتم من لينة" حديث (4884)، من طريق نافع عن ابن عمر.
[55876]:ينظر: الدر المصون 6/294.
[55877]:ينظر: الفخر الرازي 29/247.
[55878]:ذكره الرازي في "تفسيره" (29/247)، عن ابن مسعود.
[55879]:ينظر المصدر السابق.
[55880]:ينظر: النكت والعيون 5/502، والقرطبي 18/7.
[55881]:ينظر: أحكام القرآن 4/1769.