قوله : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } .
«ما » شرطية في موضع نصب ب «قطعتم » ، و«من لينة » بيان له ، و«فبإذن الله » جزاء الشرط ، فلا بد من حذف ، أي : فقطعها بإذن الله ، فيكون «بإذن الله » الخبر لذلك المبتدأ{[55859]} .
واللِّيْنة : فيها خلاف كبير{[55860]} .
وأنشد الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ *** عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا{[55861]}
طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ *** نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ{[55862]}
وقيل : هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة . قاله الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والخليل .
وقيل : ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة ، وهو قول أبي عبيدة .
قال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق : الفَحْل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي{[55863]} .
وقيل : هي النَّخْلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض .
وأنشد الأخفش رحمة الله عليه : [ الخفيف ]
قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى *** بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ{[55864]}
وقال سفيان بن عيينة : هي ضرب من النخل ، يقال لثمره : اللَّون . تمره أجود التَّمر ، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضِّرْس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف .
وقيل : هي الفَسِيْلة ؛ لأنها ألينُ من النخلة .
غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ *** ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ{[55865]}
وقيل : اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة ، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم .
وقال الأصمعي : إنها الدَّقَل . قال : وأهل «المدينة » يقولون : لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل .
قال ابن العربي{[55866]} : «والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك » .
وفي عين «لينة » قولان{[55867]} :
أحدهما : أنها «واو » ؛ لأنها من اللون ، وإنما قلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها ك «ديمة » و«قيمة » .
الثاني : أنها «ياء » ؛ لأنها من اللين .
وجمع اللينة «لين » ؛ لأنه من باب اسم الجنس ك «تمرة ، وتمر » .
وقد كسر على «ليان » وهو شاذّ ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك «رطبة ورطب وأرطاب » .
وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا *** نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ{[55868]}
والضمير في قوله «تَرَكْتُمُوهَا » عائد على معنى «ما »{[55869]} .
قرأ عبد الله والأعمش وزيد{[55870]} بن علي : «قُوَّماً » على وزن «ضُرَّباً » جمع «قائم » مراعاة لمعنى «ما » فإنه جمع .
وقرأ{[55871]} عبد الله ، { ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها } أي : لم تقطعوها .
وقرئ{[55872]} : «قَائِماً » مفرداً مذكراً .
قرئ : «أصْلها »{[55873]} بغير «واو » ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع «أصل » نحو : «رَهْن ورُهُن » .
والثاني : أن يكون حذف الواو استثقالاً لها ، واكتفى بالضمة عن «الواو » .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بنو النضير ، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك ، وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح ، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل ؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً ، واختلفوا في ذلك .
فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا .
وقال بعضهم : بل نُغيظهم بقطعها ، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم{[55874]} .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي «البُويرة » ، فنزل : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله }{[55875]} أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه «فبإذْنِ الله » أي : بأمره { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
و«اللام » في «ليخزي » متعلقة بمحذوف أي : أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين{[55876]} .
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم{[55877]} .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال{[55878]} .
وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر : قطعتها غيظاً على الكُفَّار{[55879]} .
واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي رحمه الله{[55880]} : في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب .
وقال إلكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط .
قال ابن العربي{[55881]} : وهذا باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار ، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ ، وذلك قوله - عز وجل - : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.