الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّينَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيُخۡزِيَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (5)

{ مّن لّينَةٍ } بيان لما قطعتم ، ومحل ( ما ) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } لأنه في معنى اللينة . واللينة : النخلة من الألوان ، وهي ضروب النخل ما خلا العجوة . والبرنية ، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة . وقيل : «اللينة » النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين ، قال ذو الرمّة :

كَأَنَّ قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ *** عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا

وجمعها لين ، وقرىء : «قوّما » على أصلها ، وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن ، أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو . وقرىء : «قائماً على أصوله » ذهاباً إلى لفظ ما { فَبِإِذْنِ الله } فقطعها بإذن الله وأمره ، { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء . فنزلت ، يعني : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظاً ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاءوا . واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق . وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة ، وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال .

فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع ؟ قلت : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق . وروى : أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار .

وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب .