روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّينَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيُخۡزِيَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (5)

{ مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } هي النخلة مطلقاً على ما قال الحسن . ومجاهد . وابن زيد . وعمرو بن ميمون . والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة ، وتجمع على ألوان ، وقال ابن عباس . وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة ، وقال أبو عبيدة . وسفيان : ما تمرها لون وهو نوع من التمر ، قال سفيان : شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج ، وقال أبو عبيدة أيضاً : هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برنى ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هي العجوة ، وقال الأصمعي : هي الدقل ، وقيل : هي النخلة القصيرة ، وقال الثوري : الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين ، وجاء جمعها لياناً كما في قول أمرىء القيس

: وسالفة كسحوق الليا *** ن أضرم فيه القويّ السعر

وقيل : هي أغصان الأشجار للينها ، وهو قول شاذ ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة

: كأن قنودي فوقها عش طائر *** على لينة سوقاء تهفو جنوبها

ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى ، و { مَا } شرطية منصوبة بقطعتم و { مّن لّينَةٍ } بيان لها ، وأنث الضمير في قوله تعالى : { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا } أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء مّا ، وجواب الشرط قوله سبحانه : { فَبِإِذْنِ الله } أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل ، وقرأ عبد الله . والأعمش . وزيد بن علي قوماً على وزن فعل كضرب جمع قائم ، وقرئ قائماً اسم فاعل مذكر على لفظ ما ، وأبقى أصولها على التأنيث ، وقرئ أصلها بضمتين ، وأصله { أُصُولِهَا } فحذفت الواو اكتفاءً بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف .

{ وَلِيُخْزِىَ * الفاسقين } متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك ، وجوز فيه أن يكون معطوفاً على قوله تعالى : { بِإِذنِ الله } وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه ، والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بعلة الحكم ، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف .

قال بعضهم : وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقاً مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له ، وقد سمعت بعض الغارسين يقول : السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي ، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر ، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة ، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار ، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين ، وكان ذلك أو نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ا فنزلت الآية { مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ } الخ ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه ، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضاً فلتقرير عدم كون القطع فساداً لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذاناً بتساويهما في ذلك .

واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم ، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى ، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة .