169- فجاء من بعد الذين ذكرناهم وقسمناهم إلى القسمين ، خلف سُوءٍ ورثوا التوراة عن أسلافهم ولكنهم لم يعملوا بها ، لأنهم يأخذون متاع الدنيا عوضا عن قول الحق ، ويقولون في أنفسهم : سيغفر اللَّه لنا ما فعلناه . يرجون المغفرة . والحال أنهم إن يأتهم شيء مثل ما أخذوه يأخذوه . فهم مصرون على الذنب مع طلب المغفرة ، ثم وبخهم الله على طلبهم المغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه ، فقال : إنا أخذنا عليهم العهد في التوراة ، وقد درسوا ما فيها ، أن يقولوا الحق ، فقالوا الباطل ، وإن نعيم الدار الآخرة للذين يتقون المعاصي خير من متاع الدنيا . أتستمرون على عصيانكم فلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم ، وتؤثرون عليه متاع الدنيا ؟
قوله تعالى : { فخلف من بعدهم } ، أي : جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم .
قوله تعالى : { خلف } ، والخلف : القرن الذي يجيء بعد قرن ، قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، والخلف بفتح اللام : البدل ، سواء كان ولداً أو غريباً ، وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح الصالح ، وبالجزم : الطالح ، وقال النضر بن شميل : الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد ، وأما في القرن الصالح فبتحريك اللام لا غير ، وقال محمد بن جرير : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام ، وفي الذم بتسكينها ، وقد يحرك في الذم ، ويسكن في المدح .
قوله تعالى : { ورثوا الكتاب } ، أي : انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة .
قوله تعالى : { يأخذون عرض هذا الأدنى } ، فالعرض متاع الدنيا ، والعرض ، بسكون الراء ، ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير . وأراد بالأدنى العالم ، وهو هذه الدار الفانية ، فهو تذكير الدنيا ، وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيعوا العمل بما فيها ، وخالفوا حكمها ، يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته .
قوله تعالى : { ويقولون سيغفر لنا } ، ذنوبنا ، يتمنون على الله الأباطيل . أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر ، محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني ، عن ضمرة بن جندب عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) .
قوله تعالى : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ، هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا ، وإصرارهم على الذنوب ، يقول : إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه ، حلالاً كان أو حراماً ، ويتمنون على الله المغفرة ، وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه ، وقال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم ، فيقال له : ما لك ترتشي ؟ فيقول : سيغفر لي ، فيطعن عليه الآخر ، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي أيضاً . يقول : وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه . قوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } أي : أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل ، وهي تمني المغفرة مع الإصرار ، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار .
قوله تعالى : { ودرسوا ما فيه } ، قرؤوا ما فيه ، فهم ذاكرون لذلك ، ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة ، ودرس الكتاب : قراءته وتدبره مرةً بعد أخرى .
قوله تعالى : { والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الأدْنَىَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سَوْء ، يقول : حدث بعدهم وخلافهم ، وتبدّل منهم بدل سوء ، يقال منه : هو خَلَفُ صدق ، وخَلْفُ سَوْءٍ ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها ، وقد تحرّك في الذمّ وتسكن في المدح ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان :
لنا القَدَمُ الأُولى إليكَ وخَلْفُنا ***لاِءَوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن : إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به ، وقد يجوز أن يكون منه قولهم : خَلَف فم الصائم : إذا تغيرت ريحه . وأما في تسكين اللام في الذمّ ، فقول لبيد :
ذَهَبَ الّذِينَ يُعاشُ فِي أكْنافِهِمْ ***وَبَقِيتُ فِي خَلْفِ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
وقيل : إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الاَية أنهم خلَفوا من قبلهم هم النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قال : النصارى .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الاَيات التي مضت خلف سوْء رديء ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه ، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى . وبعدُ ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك ، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه ، إذ لم يكن في الاَية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم ، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به .
فتأويل الكلام إذن : فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوْء ، ورثوا كتاب الله : تعلموه ، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه ، يُرْشَوْنَ في حكم الله ، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى ، يعني بالأدنى : الأقرب من الاَجل الأبعد ، ويقولون إذا فعلوا ذلك : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل ، كما قال جلّ ثناؤه فيهم : فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يقول : وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه ، ولم يرتدعوا عنه . يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ . قال : يعملون الذنب ثم يستغفرون الله ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : من الذنوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال : يعملون بالذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ : قال : ذنب آخر يعملون به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : الذنوب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : يتمنون المغفرة .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ : أي والله لخلْف سَوْء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورّثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ قال : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تمنوا على الله أماني وغرّة يغترّون بها . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك ، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالاً كان أو حراما .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراما . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه قال : إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ . . . إلى قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم . وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى ، فقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول : سيغفر لي فيطعن عليه البقية الاَخرون من بني إسرائيل فيما صنع . فإذا مات أو نُزِع ، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول : وإن يأت الاَخرين عرض الدنيا يأخذوه . وأما عَرَض الأدنى ، فعرض الدنيا من المال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يقول : يأخذون ما أصابوا ، ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ، ويقولون : سيغفر لنا .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الكتاب الذي كتبوه ، ويقولون : سَيُغْفَرُ لَنا لا نشرك بالله شيئا . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يأتهم المحقّ برشوه ، فيخرجوا له كتاب الله ثم يحكموا له بالرشوة . وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له المثناة ، وهو الكتاب الذي كتبوه ، فحكموا له بما في المثناة بالرشوة ، فهو فيها محقّ ، وهو في التوراة ظالم ، فقال الله : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا عَلى اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسوا ما فِيهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يعملون الذنوب .
القول في تأويل قوله تعالى : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ .
يقول تعالى ذكره : ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم ، القائلين : سيغفر الله لنا فعلنا هذا ، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب ، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها . فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الاَية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه : ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وأن لا يكذبوا عليه ؟ كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها .
وأما قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ فإنه معطوف على قوله : وَرِثُوا الكِتابَ ومعناه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، ودرسوا ما فيه . ويعني بقوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قرءوا ما فيه . يقول : ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه ، فضيعوه وتركوا العمل به ، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : علموه وعلموا ما في الكتاب الذي ذكر الله وقرأ : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .
والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وما في الدار الاَخرة ، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده ، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه ، فيراقبونه في أمره ونهيه ، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم . أفَلا تَعْقِلونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم ، ويقولون سيغفر لنا ، أن ما عند الله في الدار الاَخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم ، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار ؟
{ فخلف من بعدهم } من بعد المذكورين . { خلف } بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع . وقيل جمع وهو شائع في { ورثوا الكتاب } التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها . { يأخذون عرض هذا الأدنى } حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا ، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم ، والجملة حال من الواو . { ويقولون سيُغفر لنا } لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون . { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } حال من الضمير في { لنا } أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه . { ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي في الكتاب . { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب . { ودرسوا ما فيه } عطف على { ألم يؤخذ } من حيث المعنى فإنه تقرير ، أو على { ورثوا } وهو اعتراض . { والدار الآخرة خير للذين يتقون } مما يأخذ هؤلاء . { أفلا يعقلون } فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين .
{ خلف } معناه حدث خلفهم و { بعدهم خلْف } بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم*** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا*** لأولنا في طاعة الله تابع
والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضاً ومنه قول الشاعر :
وقال مجاهد : المراد ب «الخلف » هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس { ورثوا الكتاب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري «وُرّثوا الكتاب » بضم الواو وشد الراء ، وقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و «العرض » ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و «الأدنى » إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : { ويقولون سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم وقولهم : { سيغفر } مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم » .
وقوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم } الآية ، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و { الكتاب } يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : «يقولوا » بياء من تحت وقرأ الجحدري : «تقولوا » بتاء من فوق وقوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ألم يؤخذ } الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، «واَّدارسوا » ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ورثوا الكتاب } .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : { ودرسوا } يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : { ألم } ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقرأ جمهور الناس : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : «يعقلون » بالياء من أسفل .