{ واذكر ربك إذا نسيت } ، قال ابن عباس ومجاهد والحسن : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن . وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع ، وإن كان إلى سنة . وجوزه الحسن ما دام في المجلس ، وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان ، فإن بعد فلا يصح . ولم يجوز باستثناء جماعة حتى يكون متصلاً بالكلام . وقال عكرمة : يعني الآية : واذكر ربك إذا غضبت . وقال وهب : مكتوب في الإنجيل : " ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب " . وقال الضحاك و السدي : هذا في الصلاة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا الحسن بن أحمد المخلدي ، حدثنا عبد الواحد أبو العباس السراج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها " . { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } ، أي : يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد . وقيل : أمر الله نبيه أن يذكره إذا نسي شيئاً ، ويسأله أن يهديه لما هو خير له من ذكر ما نسيه . ويقال : هو أن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله عز وجل أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف ، وقد فعل ، حيث آتاه من علم الغيب المرسلين ما كان أوضح لهم في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف . وقال بعضهم : هذا شيء أمر أن يقوله مع قوله { إن شاء الله } إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان ، وإذا نسي الإنسان { إن شاء الله } فتوبته من ذلك أن يقول : { عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىَ أَن يَهْدِيَنِ رَبّي لأقْرَبَ مِنْ هََذَا رَشَداً } .
وهذا تأديب من الله عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة ، إلا أن يصله بمشيئة الله ، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله .
وإنما قيل له ذلك فيما بلغنا من أجل أنه وعد سائليه عن المسائل الثلاث اللواتي قد ذكرناها فيما مضى ، اللواتي إحداهنّ المسألة عن أمر الفتية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم ، ولم يستثن ، فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة ، حتى حزنه إبطاؤه ، ثم أنزل الله عليه الجواب عنهنّ ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه ، وعلّمه ما الذي ينبغي أن يستعمل في عِدَاته وخبره عما يحدث من الأمور التي لم يأته من الله بها تنزيل ، فقال : وَلا تَقُولَنّ يا محمد لِشَيْءٍ إنّي فاعِلٌ ذلك غَدا كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف ، والمسائل التي سألوك عنها ، سأخبركم عنها غدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ . ومعنى الكلام : إلا أن تقول معه : إن شاء الله ، فترك ذكر تقول اكتفاء بما ذكر منه ، إذ كان في الكلام دلالة عليه . وكان بعض أهل العربية يقول : جائز أن يكون معنى قوله : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ استثناء من القول ، لا من الفعل كأن معناه عنده : لا تقولنّ قولاً إلا أن يشاء الله ذلك القول ، وهذا وجه بعيد من المفهوم بالظاهر من التنزيل مع خلافه تأويل أهل التأويل .
وقوله : وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن هارون الحربيّ ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في الرجل يحلف ، قال له : أن يستثنَي ولو إلى سنة ، وكان يقول : وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ في ذلك قيل للأعمش سمعتَه من مجاهد ، فقال : ثني به ليث بن أبي سليم ، يرى ذهب كسائي هذا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله وَلا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إنّي فاعِلٌ ذلكَ غَدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ الاستثناء ، ثم ذكرت فاستثن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، في قوله : وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ قال : بلغني أن الحسن ، قال : إذا ذكر أنه لم يقل : إن شاء الله ، فليقل : إن شاء الله .
وقال آخرون : معناه : واذكر ربك إذا عصيت . ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرِمة ، في قول الله : وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ قال : اذكر ربك إذا عصيت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن عكرمة ، مثله .
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : واذكر ربك إذا تركت ذكره ، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك ، وقد بيّنا ذلك فيما مضى قبل .
فإن قال قائل : أفجائز للرجل أن يستثنيَ في يمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه ؟ قيل : بل الصواب أن يستثنى ولو بعد حِنْثه في يمينه ، فيقول : إن شاء الله ليخرج بقيله ذلك مما ألزمه الله في ذلك بهذه الاَية ، فيسقط عنه الحرج بتركه ما أمره بقيله من ذلك فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال ، إلا أن يكون استثناؤه موصولاً بيمينه .
فإن قال : فما وجه قول من قال له : ثُنْياه ولو بعد سنة ، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر ، وقول من قال ما دام في مجلسه ؟ قيل : إن معناهم في ذلك نحو معنانا في أن ذلك له ، ولو بعد عشر سنين ، وأنه باستثنائه وقيله إن شاء الله بعد حين من حال حلفه ، يسقط عنه الحرج الذي لو لم يقله كان له لازما فأما الكفارة فله لازمة بالحِنْث بكلّ حال ، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولاً بالحلف ، وذلك أنا لا نعلم قائلاً قال ممن قال له الثّنْيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفارة إذا حنِث ، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، وأن معنى
القول فيه ، كان نحو معنانا فيه .
وقوله : وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا يقول عزّ ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ولعلّ الله أن يهديني فيسدّدني لأسدّ مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون ، إن هو شاء .
وقد قيل : إن ذلك مما أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه ، الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله : إن شاء الله ، إذا ذكر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن محمد ، رجل من أهل الكوفة ، كان يفسر القرآن ، وكان يجلس إليه يحيى بن عباد ، قال : وَلا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إنّي فاعِلٌ ذلكَ غَدا إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِيَنَ رَبّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا قال فقال : وإذا نسي الإنسان أن يقول : إن شاء الله ، قال : فتوبته من ذلك ، أو كفّارة ذلك أن يقول : عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا .
{ إلا أن يشاء الله } نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ، فسألوه فقال : " ائتوني غدا أخبركم " ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي بشعة عشر يوما حتى شق عليه وكذبه قريش . والاستثناء من النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب { أن يشاء الله } ، أي إلا ملتبسا بمشيئته قائلا إن شاء الله أو إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه ، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي { واذكر ربك } مشيئة ربك وقل إن شاء الله . كما روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة والسلام : " إن شاء الله " . { إذا نسيت } إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته . وعن ابن عباس ولو بعد سنة ما لم يحنث ، ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه . وعامة الفقهاء على خلافه لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرارا ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب ، وليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه ، ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه ، أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك ، أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي . { وقل عسى أن يهدين ربي } يدلني . { لأقرب من هذا رَشداً } لأقرب رشدا وأظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف . وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ، أو لأقرب رشدا وأدنى خيرا من المنسي .