الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا} (24)

قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } : قاله أبو البقاء : " في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : هو مِنَ النَّهْيِ . والمعنى : لا تقولَنَّ : أفعل غداً ، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول . الثاني : هو من " فاعلٌ " ، أي : لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ " إن شاء الله " . والثالث : أنه منقطعٌ . وموضعُ " أَنْ يشاء اللهُ " نصبٌ على وجهين ، أحدُهما على الاستثناءِ ، والتقدير : لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله ، أي : يَأْذَنَ ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ . والثاني : هو حالٌ والتقدير : لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً : إن شاء الله ، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى : إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى . وقيل : التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ ، أي : ملتبساً بقولِ : " إن شاء الله " .

قلت : قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني ، فقال : " إلا أَنْ يشاء " متعلقٌ بالنهي لا بقولِه " إنِّي فاعلٌ " لأنَّه لو قال : إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه : إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه ، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي " . قلت : يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن .

ثم قال : " وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين ، أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه . والثاني : ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي : إلا بمشيئته ، وهو في موضعِ الحال ، أي : ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله . وفيه وجهٌ ثالث : وهو أَنْ يكونَ " إلا أَنْ يشاء " في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل : ولا تقولَنَّه أبداً ، ونحوُه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله " .

وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ .

وقال الشيخ : " وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه ، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول : إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه ، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ . فقال ابن عطية : " في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ ، ويُحَسِّنه الإيجازُ ، تقديرُه : إلا أَنْ تقولَ : إلا أَنْ يشاءَ الله ، أو إلا أَنْ تقولَ : إنْ شاء الله . والمعنى : إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله ، فليس " إلا أن يشاءَ اللهُ " من القولِ الذي نَهَى عنه " .