اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا} (24)

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : قال أبو البقاء{[20954]} : في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : هو من النَّهي . والمعنى : لا تقولنَّ : أفعلُ غداً ، إلاَّ أن يؤذن لك في القول .

الثاني : هو من " فاعلٌ " ، أي : لا تقولنَّ إني فاعل غداً ؛ حتَّى تقرن به قول " إن شاء الله " .

والثالث : أنه منقطعٌ ، وموضع " أن يشاء الله " نصب على وجهين :

أحدهما : على الاستثناء ، و التقدير : لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله ، أي : يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد .

الثاني : هو حالٌ ، والتقدير : لا تقولنَّ : أفعل غداً إلا قائلاً : " إن شاء الله " وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ ملتبساً بقول : " إن شاء الله " .

وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني ، فقال : " إلاَّ أن يشاءَ " متعلقٌ بالنهي ، لا بقوله " إنِّي فاعلٌ " لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي .

معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن .

ثم قال : " وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين :

أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه .

والثاني : ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبساً بمشيئة الله ، قائلاً إن شاء الله .

وفيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون " إلاَّ أن يشاء " في معنى كلمة تأبيدٍ ، كأنَّه قيل : ولا تقولنَّه أبداً ، ونحوه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله " .

وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضِّح وجه الفساد .

وقال أبو حيان : " وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله ؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ ، فقال ابن عطيَّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسِّنهُ الإيجاز ، تقديره : إلاَّ أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلاَّ أن تذكر مشيئة الله ، فليس " إلاَّ أن يشاء الله " من القول الذي نهي عنه " .

فصل

قال كثيرٌ من الفقهاء{[20955]} : إذا قال الرَّجل لزوجته : " أنْتِ طالقٌ ، إن شاء الله " لم يقع الطَّلاق ؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله ، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل ، وهو{[20956]} هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلاَّ إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ ، وهو دورٌ ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق .

فصل

احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ ، قالوا : لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً ، وهو معدومٌ في الحال .

[ وأجيب ]{[20957]} بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى{[20958]} بكونه شيئاً ، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه ؛ لقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] والمراد سيأتي أمر الله .

ثم قال تعالى : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثنِ{[20959]} .

وقال ابن عباس : بالاستثناء المنقطع ، وإن كان إلى سنة لهذه الآية{[20960]} .

وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس .

وعن سعيد بن جبيرٍ : بعد سنة ، أو شهرٍ ، أو أسبوعٍ ، أو يوم{[20961]} .

وعن عطاءٍ : بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ{[20962]} .

وعند عامة الفقهاء : لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، وقالوا : لأنا لو جوَّزنا ذلك ، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والأيمان .

[ يحكى ]{[20963]} أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره ؛ لينكر عليه ، فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أترضى أن يخرجوا من عندك ، فيستثنوا ، فيخرجوا عليك ، فاستحسن المنصور كلامه ، ورضي عنه .

واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس ، وفيه ما فيه .

وأيضاً فلو قال : " إنْ شَاءَ الله " خفية ؛ بحيث لا يسمع ، كان دافعاً للحنث بالإجماع ، مع أنَّ المحظور باقٍ ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ ، [ والأولى ]{[20964]} أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفاءِ بالعقد والعهد ؛ كقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] ، فإذا أتى بعهدٍ ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات .

خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً ؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد ؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وإذا كان كذلك ، فإن لم يكن منفصلاً ، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام ؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم .

وقيل : إن قوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله .

فصل

قال عكرمة : واذكر ربَّك ، إذا غضبت{[20965]} .

وقال وهبٌ : مكتوب في الإنجيل " ابن آدمَ ، اذكُرنِي حين تغضبُ ، أذكرك حينَ أغْضَبُ " {[20966]} .

وقال الضحاك ، و السديُّ : هذا في الصَّلاة المنسيَّة{[20967]} .

قال ابن الخطيب{[20968]} : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة ، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً ، وذلك لا يجوز .

ثم قال : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } وفيه وجوهٌ :

الأول : أن ترك قوله : " إنْ شَاءَ اللهُ " ليس بحسن ، وذكره أحسن من تركه ، وهو قوله : { لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } المراد منه ذكر هذه الجملة .

الثاني : أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ ، وقال معه ( إن شاء الله تعالى ) فيقول : عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به .

الثالث : أن قوله : { عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف ، أي : لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة ، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك .


[20954]:ينظر: الإملاء 2/100.
[20955]:ينظر: الفخر الرازي 21/93.
[20956]:سقط من أ.
[20957]:في أ: فإن قيل.
[20958]:في أ: شيء.
[20959]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/208) عن ابن عباس وأبي العالية. و ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/394) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني. وعن أبي العالية وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
[20960]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/208) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/394) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
[20961]:ينظر: تفسير الماوردي (3/299).
[20962]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/394) وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء.
[20963]:في أ: فالجواب: يحكى.
[20964]:في أ: والأقوى.
[20965]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/209) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/395) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان".
[20966]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/157).
[20967]:ينظر: المصدر السابق وتفسير القرطبي (10/251).
[20968]:ينظر : الفخر الرازي 21/94 ـ 95.