قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : قال أبو البقاء{[20954]} : في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : هو من النَّهي . والمعنى : لا تقولنَّ : أفعلُ غداً ، إلاَّ أن يؤذن لك في القول .
الثاني : هو من " فاعلٌ " ، أي : لا تقولنَّ إني فاعل غداً ؛ حتَّى تقرن به قول " إن شاء الله " .
والثالث : أنه منقطعٌ ، وموضع " أن يشاء الله " نصب على وجهين :
أحدهما : على الاستثناء ، و التقدير : لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله ، أي : يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد .
الثاني : هو حالٌ ، والتقدير : لا تقولنَّ : أفعل غداً إلا قائلاً : " إن شاء الله " وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ ملتبساً بقول : " إن شاء الله " .
وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني ، فقال : " إلاَّ أن يشاءَ " متعلقٌ بالنهي ، لا بقوله " إنِّي فاعلٌ " لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي .
معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن .
ثم قال : " وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين :
أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه .
والثاني : ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله ، أي : إلاَّ بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبساً بمشيئة الله ، قائلاً إن شاء الله .
وفيه وجه ثالثٌ : وهو أن يكون " إلاَّ أن يشاء " في معنى كلمة تأبيدٍ ، كأنَّه قيل : ولا تقولنَّه أبداً ، ونحوه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله " .
وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضِّح وجه الفساد .
وقال أبو حيان : " وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول ، فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله ؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ ، فقال ابن عطيَّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسِّنهُ الإيجاز ، تقديره : إلاَّ أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلاَّ أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلاَّ أن تذكر مشيئة الله ، فليس " إلاَّ أن يشاء الله " من القول الذي نهي عنه " .
قال كثيرٌ من الفقهاء{[20955]} : إذا قال الرَّجل لزوجته : " أنْتِ طالقٌ ، إن شاء الله " لم يقع الطَّلاق ؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله ، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل ، وهو{[20956]} هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلاَّ إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ ، وهو دورٌ ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق .
احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ ، قالوا : لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً ، وهو معدومٌ في الحال .
[ وأجيب ]{[20957]} بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى{[20958]} بكونه شيئاً ، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه ؛ لقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] والمراد سيأتي أمر الله .
ثم قال تعالى : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثنِ{[20959]} .
وقال ابن عباس : بالاستثناء المنقطع ، وإن كان إلى سنة لهذه الآية{[20960]} .
وعن سعيد بن جبيرٍ : بعد سنة ، أو شهرٍ ، أو أسبوعٍ ، أو يوم{[20961]} .
وعن عطاءٍ : بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ{[20962]} .
وعند عامة الفقهاء : لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، وقالوا : لأنا لو جوَّزنا ذلك ، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والأيمان .
[ يحكى ]{[20963]} أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره ؛ لينكر عليه ، فقال له أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أترضى أن يخرجوا من عندك ، فيستثنوا ، فيخرجوا عليك ، فاستحسن المنصور كلامه ، ورضي عنه .
واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس ، وفيه ما فيه .
وأيضاً فلو قال : " إنْ شَاءَ الله " خفية ؛ بحيث لا يسمع ، كان دافعاً للحنث بالإجماع ، مع أنَّ المحظور باقٍ ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ ، [ والأولى ]{[20964]} أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفاءِ بالعقد والعهد ؛ كقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [ الإسراء : 34 ] ، فإذا أتى بعهدٍ ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات .
خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً ؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد ؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وإذا كان كذلك ، فإن لم يكن منفصلاً ، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام ؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم .
وقيل : إن قوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله .
قال عكرمة : واذكر ربَّك ، إذا غضبت{[20965]} .
وقال وهبٌ : مكتوب في الإنجيل " ابن آدمَ ، اذكُرنِي حين تغضبُ ، أذكرك حينَ أغْضَبُ " {[20966]} .
وقال الضحاك ، و السديُّ : هذا في الصَّلاة المنسيَّة{[20967]} .
قال ابن الخطيب{[20968]} : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة ، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً ، وذلك لا يجوز .
ثم قال : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } وفيه وجوهٌ :
الأول : أن ترك قوله : " إنْ شَاءَ اللهُ " ليس بحسن ، وذكره أحسن من تركه ، وهو قوله : { لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } المراد منه ذكر هذه الجملة .
الثاني : أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ ، وقال معه ( إن شاء الله تعالى ) فيقول : عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به .
الثالث : أن قوله : { عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف ، أي : لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة ، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء ، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.