41- وصدِّقوا بالقرآن الذي أنزلت مصدقا لما عندكم من كتاب وعلم من التوحيد وعبادة الله ، والعدل بين الناس ، ولا تسارعوا إلى جحود القرآن فتكونوا أول الكافرين به من حيث ينبغي أن تكونوا أول المؤمنين به ، ولا تتركوا آيات الله لتأخذوا عن ذلك عوضاً قليلاً زائلاً من متاع الحياة الدنيا ، وخُصّوني بالخوف فاتبعوا طريقي ، وأعرضوا عن الباطل .
قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { مصدقاً لما معكم } . أي موافقاً لما معكم يعني : التوراة ، في التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي صلى الله عليه وسلم ، نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم .
قوله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به } . أي بالقرآن يريد من أهل الكتاب ، لأن قريشاً كفرت قبل اليهود بمكة ، معناه : ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك فتبوؤا بآثامكم وآثامهم .
قوله تعالى : { ولا تشتروا } . أي ولا تستبدلوا .
قوله تعالى : { بآياتي } . ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ثمناً قليلاً } . أي عرضاً يسيراً من الدنيا ، وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم ، وجهالهم ، يأخذون منهم كل عام منهم شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المأكلة فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة .
{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } .
وبعد أن أمر الله - عز وجل - بني إسرائيل ، أن يوفوا بعهده عموماً أتبع ذلك بأمرهم بأن يوفوا بأمر خاص وهو القرآن الكريم ، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه ، وتقخيم لأمره . وأفرد - سبحانه - أمرهم بأن يؤمنوا به مع إندراجه في قوله - تعالى - { وَأَوْفُواْ بعهدي } للإِشارة إلى أن الوفاء بالعهد لا يحصل منهم إلا إذا صدقوا به .
والمراد بما معهم التوراة ، والتعبير عنها بذلك للإِشعار بعلمهم بتصديقه لها . والمعنى : آمنوا يا بني إسرائيل بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم المصدق لكتابكم التوارة ، ومن مظاهر هذا التصديق اشتمال دعوته على ما يحقق دعوتها ، من الأمر بتوحيد الله - تعالى - والحث على التمسك بالفضائل ، والبعد عن الرذائل ، وإخباره بما جاء بها من الإِشارة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومطابقة ما وصفته به مطابقة واضحة جلية وموالفقته لها في أصول الدين الكلية ، وهيمنته عليها ، ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
وفي إخبار بني إسرائيل بأن القرآن الكريم مصدق لما معهم ، إثارة لهممهم لو كانوا يعقلون - للإِقبيال عليه ، متدبرين آياته ، حتى تستيقن نفوسهم أنه دعوة الحق والإِصلاح المؤدية إلى السعادة في الدنيا والآخرة وحتى تطمئن قلوبهم إلى أن الإِيمان به معناه الإِيمان بما معهم ، والكفر به ، كفر بما بين أيديهم ، حيث إن ما بين أيديهم قد بشر ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - المنزل عليه القرآن الكريم .
قال الإِمام الرازي : ( وهذه الجملة الكريمة تدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين :
أولهما : أن الكتب السابقة قد بشرت به ، وشهاداتها لا تكون إلا حقاً .
وثانيهما : أنه - عليه الصلاة والسلام - قد أخبرهم عما في كتبهم بدون معرفة سابقة لها ، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الوحي .
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بالإِيمان الخالص ، عرض بهم لتكذيبهم وجحوهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي : لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن الكريم ، فيقتدى بكم أناس آخرون وبهذا تصيرون أئمة للكفر مع أن من الواجب عليكم أن تسارعوا إلى الإيمان به لأنكم أدرى الناس بأنهن من عند الله ، وأكثرهم علماً بأنه الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن ، وهو الصادق الأمين فيما يبلغه عن ربه .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة ، تبكيتهم على مسارعتهم في الكفر ، واستعظام وقوع الجحود منهم ، وتوعدهم عليه بسوء المآل .
قال الإِمام الرازي : ( هذه الجملة خطاب لبني إسرائيل قبل غيرهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لا تكفروا بمحمد ، فإنه سيكون بعدكم كفرة ، فلا تكونوا أنتم أولهم لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإِثم ، وذلك لأنهم إذا سُبقوا إلى الكفر ، فإما أن يقتدى بهم غيرهم أولا ، فإن اقتدى بهم غيرهم كان عليهم وزره ووزر كل كافر إلى يوم القيامة ، وإن لم يقتد بهم غيرهم ، اجتمع عليهم أمران : السبق إلى الكفر ؛ والتفرد به وكلاهما منقصة عظيمة ، وتؤدى إلى العاقبة الوبيلة ) .
ثم نهاهم عن أن يبيعوا دينهم بديناهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
والاشتراء هنا استعارة للاستبدال ، والذي استبدل به الثمن القليل هو الإِيمان بالآيات ، والمراد بالآيات : البراهين المؤيدة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن الكريم والتوراة .
والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه ، وما إلى ذلك من الأمور التي خافوا ضياعها لو اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : لا تستبدلوا بالإِيمان بما أنزلت مصدقاً لما معكم شيئاً من حطام الدنيا ، ولا تختاروا على ثواب الله بديلا من الأموال ، فإنها مما كثرت فهي قليلة مسترذلة بالنسبة لما يناله أولو الإيمان الخالص من رعاية ضافية في الدنيا ، وخيرات حسان في الأخرى .
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بقل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ؛ إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله - عز وجل - .
ونزل تمكينهم من الإِيمان بالآيات لوضوحها منزلة حصوله بالفعل ، فكأن الإِيمان كان في حوزتهم ، ولكنهم خلعوه ، ونبذوه ، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ فباءوا بغضب على غضب لكفرهم بالقرآن الكريم وبتوراتهم التي بشرت بالرسول - عليه الصلاة والسلام- .
ثم حذرهم - سبحانه - من التمادي في الكفر بما أنزل ، مصدقاً لما معهم ، فقال - تعالى " وإياي فاتقون " الاتقاء معناه الحذر ، يقال : فلان اتقى الله أي حذر عقابه وبطشه ، والحذر من عقاب الله ، يستلزم امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فمعنى " وإياي فاتقون " آمنوا بي ، واتبعوا الحق وأعرضوا عن الباطل .
وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ( 41 )
{ وآمنوا } معناه صدقوا ، و { مصدقاً } نصب على الحال من الضمير في { أنزلت }( {[533]} ) ، وقيل ما «والعامل فيه { آمنوا } وما أنزلت كناية عن القرآن ، و { لما معكم } يعني من التوراة وقوله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به } هذا من مفهوم الخطاب الذي : المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد ، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي( {[534]} ) ، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به( {[535]} ) ، ونصب أول على خبر كان .
قال سيبويه : { أول } أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه » قال غير سيبويه : «هو أوأل من وأل إذا نجا( {[536]} ) ، خففت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت » .
وقيل : إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل ، وسهل وأبدل وأدغم ، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم ، والمراد به الجماعة( {[537]} ) .
وإذا همُ طعموا فألأمُ طاعمٍ . . . وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياع( {[538]} )
وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به( {[539]} ) وقيل معناه : ولا تكونوا أول فريق كافر به .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد كان كفر قبلهم كفار قريش ، فإنما معناه من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا ، لأنهم حجة مظنون بهم علم ، واختلف في الضمير في { به } على من يعود ، فقيل على محمد عليه السلام ، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله : { لما معكم } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وعلى هذا القول( {[540]} ) يجيء { أول كافر به } مستقيماً على ظاهرة في الأولية ، وقيل الضمير في { به } عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله { بما أنزلت } .
واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات . فقالت طائفة : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة ، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم : علم مجاناً كما علمت مجاناً أي باطلاً بغير أجرة .
وقال قوم : كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك .
وقال قوم : إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة ، ففي ذلك قال تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً }( {[541]} ) [ البقرة : 41 ، المائدة : 44 ] .
وقال قوم : معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيَّ وآياتي ثمناً قليلاً ، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له ، وقد تقدم نظير قوله { وإياي فاتقون }( {[542]} ) وبين { اتقون }( {[543]} ) و { ارهبون } فرق ، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله:"آمِنُوا": صدّقوا...
ويعني بقوله:"بمَا أنْزَلْت": ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن.
ويعني بقوله: "مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ "أن القرآن مصدّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد، تصديق منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة...
عن مجاهد في قول الله: "وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ "يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقا لما معكم؛ التوراة والإنجيل...
[و] عن أبي العالية: "وآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ" يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدّقا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل...
"وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ": يا معشر أحبار أهل الكتاب؛ صدّقوا بما أنزلت على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدّق كتابكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبي المبعوث بالحقّ، ولا تكونوا أوّل من كذّب به وجحد أنه من عندي وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرُهم به: جحودهم أنه من عند الله...
قال ابن جريج في قوله: "وَلا تَكُونُوا أولَ كَافِرٍ بِهِ": بالقرآن... [و] عن أبي العالية: "وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ" يقول: لا تكونوا أوّل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: "وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ" يعني بكتابكم؛ ويتأوّل أن في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبا منهم بكتابهم لأن في كتابهم الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدان. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أوّلها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدا صلوات الله عليه رسول مرسل لا تنزيلٌ مُنزل، والمنزل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أوّل الآية من أهل الكتاب. فذلك هو الظاهر المفهوم، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكر ظاهر فيعاد عليه بذكره مكنيّا في قوله: وَلا تَكُونُوا أوّلَ كافِرٍ بِهِ، وإن كان غير محال في الكلام أن يذكر مكنيّ اسم لم يجر له ذكر ظاهر في الكلام. وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في «به» على «ما» التي في قوله: لِمَا مَعَكُمْ لأنّ ذلك وإن كان محتملاً ظاهر الكلام، فإنه بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أوّل الآية هو القرآن، فكذلك الواجب أن يكون المنهي عن الكفر به في آخرها هو القرآن. وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غير المنهي عن الكفر به في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام، هذا مع بعد معناه في التأويل.
[و] عن ابن عباس: "وَآمنُوا بِمَا أنْزَلْتَ مصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ" وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم...
"وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك...
[ف] عن أبي العالية... لا تأخذوا عليه أجرا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلّمْ مجانا كما عُلّمْتَ مَجّانا...
وعن السدي: "وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنا قَلِيلاً" يقول: لا تأخذوا طمعا قليلاً وتكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن.
فتأويل الآية إذا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل. وبيعهم إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجر ممن بينوا له ذلك على ما بينوا له منه.
وإنما قلنا معنى ذلك: «لا تبيعوا» لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائع الآيات بالثمن، فكل واحد من الثمن والمثمن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري. وإنما معناه على ما تأوّله أبو العالية: بينوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرا، فيكون حينئذٍ نهيه عن أخذ الأجر على تبيينه هو النهي عن شراء الثمن القليل بآياته...
"وَإيّايَ فاتّقُونِ": فاتقون في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنزلت على رسولي، وجحودكم نبوّة نبيي أن أحلّ بكم ما أحللت بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنّقِمَات...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته. ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه والمستفتحين على الذين كفروا به. وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس كقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} إلى قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 1-4] {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89]
يعني ولا تستبدلوا بآياتي ثمناً وإلا فالثمن هو المشترى به. والثمن القليل الرياسة التي كانت لهم في قومهم، خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبدلوها، وهي بدل قليل ومتاع يسير بآيات الله وبالحق الذي كل كثير إليه قليل، وكل كبير إليه حقير، فما بال القليل الحقير.
وقيل كانت عامتهم يعطون أحبارهم من زروعهم وثمارهم، ويهدون إليهم الهدايا، ويرشونهم الرشا على تحريفهم الكلم، وتسهيلهم لهم ما صعب عليه من الشرائع. وكان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا أو يحرّفوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
"ولا تكونوا أول كافر به": ولا تكونوا أول فريق كافر به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، فإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم.
و قال قوم: معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيَّ وآياتي ثمناً قليلاً، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم؛ فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في مقتضى الآية، والله أعلم...
و قد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني ريحها...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإيّاي فاتقون}: الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله: {وإيّاي فارهبون}، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة. قال صاحب المنتخب: والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهى كلامه.
ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا: أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك: {فارهبون}، وقيل في هذا: {فاتقون}، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد "ارهبون "و"اتَّقون" بشيء، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً، فكان المعنى: "ارهبون"، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي. و"اتقون" إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشتريتم بآياتي ثمناً قليلاً.
قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}. عظم الآيات بالجمع والإضافة إليه إضافة تشريف، وحقر الثمن بالإفراد، والوصف بالقلة، فهو حقير في قدره وفي صفته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وفي قوله تعالى: {وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم}: تقرير لذلك الكتاب لا ريب فيه، وأمروا كما قال الحرالي: تجديد الإيمان بالقرآن لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده -ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة- انتهى.
وفي قوله: {ولا تكونوا أول كافر به} معنى دقيق في تبكيتهم وأمر جليل من تعنيفهم وذلك أنه ليس المراد من {أول} ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن فإن العرب كثيراً ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته بل المبالغة في السبق... هذا في جانب الإثبات، فإذا نفيت ناهياً فقلت: لا تكن أول فاعل لكذا، فمعناه إنك إن فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له، وعبر به تنبيهاً على أنهم لما تركوا اتباع هذا الكتاب كانوا لما عندهم من العلم بصحته في غاية اللجاجة فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر عمل من يسابق شخصاً إلى شيء، أو يكون المعنى أنهم لم يمنعهم من الإيمان به جهل بالنظر ولا عدم إطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشر بل مجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي المستلزم لحسد هذا النبي بعينه، لأن الحكم على الأعم يستلزم الحكم على الأخص بما هو من أفراد الأعم. فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب الجاهلين به أو الحاسدين له صلى الله عليه وسلم بخصوصه لا لعموم العرب، فكان أهل الكتاب أول كافر به لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه الذي هو أقبح الوجوه، فالمعنى لا تكفروا به، فإنه إن وقع منكم كفر به كان أول كفر، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر، ولذا أفرد ولم يقل: كافرين -والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم انتقل من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال تعالى جل شأنه {وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون} من تعليم التوراة وكتب الأنبياء كالتوحيد والنهي عن الفواحش والمنكرات والأمر بالمعروف وما يتصل بهذا من الإرشاد الموصل إلى السعادة، فإذا نظرتم في القرآن ووجدتموه مصدقا لما معكم من مقاصد الدين الإلهي وأصوله ووعود الأنبياء وعهودهم، تعلمون أن الروح الذي نزل به هو عين الروح الذي نزل بما سبقه، وتعلمون أنه لا غرض لهذا النبي الذي يدعوكم إلى مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء إلا تقرير الحق، وهداية الخلق، بعد ما طرأ من ضلالة التأويل، وجهالة التقليد، فبادروا إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي قامت به الحجة عليكم من وجهين (أحدهما) إعجازه (وثانيهما) كونه مصدقا لما معكم {ولا تكونوا أول كافر به} أي ولا تبادروا إلى الكفر به والجحود له مع جدارتكم بالسبق إليه، وهذا الاستعمال معروف في الكلام البليغ لهذا المعنى لا يقصد بالأولية فيه حقيقتها. والخطاب عام لليهود في كل عصر وزمان ثم قال {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} الآيات هي الدلائل التي أيد بها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها القرآن فهو كقوله تعالى {اشتروا الضلالة بالهدى} أي لا تعرضوا عن الإيمان بهذا النبي وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل وهو ما يستفيده رؤساؤكم من المرؤوسين من مال وجاه أوقعاهم في الكبر والغرور، وما يتوقعه المرؤوسون من الزلفى والحظوة بتقليد الرؤساء واتباعهم وما يخشونه إذا خالفوهم من المهانة والذلة، وإنما سمى هذا الجزاء قليلا لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه، وكيف لا يكون قليلا وصاحبه يخسر عقله وروحه قبل كل شيء لإعراضه عن الآيات البينات، والبراهين الواضحات، ثم إنه يخسر عن الحق وما يكون له من الشأن العظيم وحسن العاقبة، ثم إنه يخسر مرضاة الله تعالى وتحل به نقمه في الدنيا وعقوبته في الآخر، وختم هذه الآية بشبه ما ختم به ما قبلها وذلك قوله {وإياي فاتقون}
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وإياي فاتقون} بالإيمان وإتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة. وليس في هذا تكرار مع قوله: وإياي فارهبون، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرؤوس، واتقاء المرؤوس خوف غضب الرئيس، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والثمن والمال والكسب الدنيوي المادي.. كله شنشنة يهود من قديم!! وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية والفتاوى المكذوبة، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء، كما ورد في مواضع أخرى، واستبقاء هذا كله في أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام، حيث تفلت منهم القيادة والرياسة.. على أن الدنيا كلها -كما قال بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية- ثمن قليل، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والمراد من كون القرآن مصدقاً لما معهم، أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل، ومن الوعيد والوعد والمواعظ والقَصص، فما تماثل منه بها، فأمره ظاهر، وما اختلفَ، فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول الجميع تحت أصل واحد، ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخاً، لأن النسخ إزالة حكم ثابت، ولم يسم إبطالاً أو تكذبياً، فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفاً فيه لما معهم، لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعاً لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب تفاوت الأعصار بحيث يكون المغيِّر والمغيَّر حقاً بحسب زمانه وليس ذلك إبطالاً ولا تكذيباً.
قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات} [النساء: 160] الآية. فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه. ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم، فيكون وروده معجزة لأنبيائهم، وتصديقاً آخر لدينهم، وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق؛ لأن التصديق حقيقة في إعلام المخبَر (بفتح الباء) بأن خبر المخبِر مطابق للواقع، إما بقوله: صدقت، أو صدقَ فلان، كما ورد في حديث جبريل في « صحيح البخاري» لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان؛ أنه لما أخبره، قال السائل: صدقتَ، قال: فعَجِبْنا له يَسْأَلُه ويُصدقه،
وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره، فيكون إخباره الثاني تصديقاً لإخبار الأول.
وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدقِ خبرٍ مَّا، فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقاً لما معهم بأخباره وأحكامه، لا وصف الدين والنبوة كما لا يخفى...
والمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام، فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين من ملزوماته؛ هما معنى المبادرة إلى الإسلام، ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي، فيكون معنى النهي مراداً ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مراداً وهو المقصود فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معاً، فباعتبار اللازم يكون النهي في معنى الأمر، فيتأكد به الأمر الذي قبله، كأنه قيل: وآمنوا بما أنزلت وكونوا أول المؤمنين، وباعتبار الملزوم يكون نهياً عن الكفر بعد الأمر بالإيمان فيحصل بذلك غرضان...
ويندفع بهذا سؤالان مستقلان أحدهما ناشئ عما قبله:
الأول: كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي أنهم لو كفروا به ثانياً لما كان كفرهم منهيًّا عنه؟
الثاني: أنه قد سبقهم أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب اليهود نزلت في المدينة فقد تحقق أن اليهود لم يكونوا أول الكافرين فالنهي عن أن يكونوا أول الكافرين تحصيل حاصل. ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي وهو يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر، أي لا يكونوا متأخرين في الإيمان، وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب « الكشاف» واختاره البيضاوي فاقتصر عليه.
واعلم أن التعريض في خصوص وصف {أول}، وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به، فذلك مدلول اللفظ حقيقة وصريحاً. والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه. وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية...في هذه السورة.
المعنى الثاني أن يكون المقصود التعريض بالمشركين وأنهم أشد من اليهود كفراً أي لا تكونوا في عدادهم ولعل هذا هو مراد صاحب « الكشاف» من قوله: « ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة» ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه.
المعنى الثالث: أن يراد من {أول} المبادرُ والمستعجِل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى: {فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]...
المعنى الرابع: أن يكون {أول} كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم، قال تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة} [هود: 98]... المعنى الخامس: أن يكون المراد الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في المدينة لأن ما بعد الهجرة هو حال ثانية للإسلام، فيها ظهر الإسلام متميزاً مستقلاً...
وبهذا كله يتضح أن قوله: {ولا تكونوا أول كافر به} لا يتوهم منه أن يكون النفي منصباً على القيد بحيث يفيد عدم النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر...
وقد عدي الاشتراءُ هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ ليس ثم معنى حقه أن يؤدى بالحرف شبه بمعنى الباء، فها هنا يتعين سلوك طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية. ولا يصح أيضاً جعل الباء تخييلاً إذ ليست دالة على معنى مستقل يمكن تخيله. ثم عبر عن مفعول الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطى لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل بلفظ آخر كأن يقال: لا تشتروا بآياتي متاعاً قليلاً فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر.
وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعياناً وحطاماً جعلت بدلاً عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء وأخذوا حظًّا ما قليلاً فكان كلا البدلين في الآية مشبهاً بالثمن إلا أن الآيات شبهت به في كونها أهون على المعتاض، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئاً مادياً يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلاً من الآيات والثمن أمر هين على فريق فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخُص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية وكل من الاستعارتين قرينة على الأخرى،
ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحاً إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير الأحكام الشرعية كقوله {يأخذون عرض هذا الأدنى} [الأعراف: 169]...
فعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأعراض الدنيا، وكذلك كانت سيرة السلف رضي الله عنهم. ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفاً وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة. وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلاً عن الفقه والعلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم)، فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب. أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الأخرى بشأن النّبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النّبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ) أي لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكة كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، بل في كونكم روّاداً للكفر، وسباقين للمعارضة. لأنكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النّبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره. فما عدى ممّا بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر به؟!. إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
(وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلا). آيات الله، لا ينبغي دون شك معاوضتها، بأي ثمن، قليلا كان أم كثيراً. وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود، التي تنسى كل التزاماتها من أجل مصالحها التافهة. هذه الفئة، التي كانت قبل البعثة من المبشرين بظهور نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبكتابه السماوي، أنكرت بشارات التوراة وحرفتها، حين رأت مصالحها معرضة للخطر، وعلمت أن مكانتها الاجتماعية معرضة للانهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.
[و] في الواقع، لو أعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمناً لإِنكار آية واحدة من آيات اللّه، لكان ثمناً قليلا، لأنّ هذه الحياة فانية، والحياة الأخرى هي دار البقاء والخلود. فما بالك بإنسان يفرّط بهذه الآيات الإِلهية في سبيل مصالحه التافهة؟!
(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)، والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.