نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

وفي قوله تعالى : { وآمنوا بما أنزلت{[2051]} } أي أوجدت إنزاله { مصدقاً لما معكم } تقرير لذلك الكتاب لا ريب فيه ، وأمروا كما قال الحرالي تجديد الإيمان بالقرآن لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن ، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان ، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده - ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة - انتهى . وفي قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } معنى دقيق في تبكيتهم وأمر جليل من تعنيفهم{[2052]} وذلك أنه ليس المراد من { أول }{[2053]} ظاهر معناه المتبادر{[2054]} إلى الذهن{[2055]} فإن العرب كثيراً ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته بل المبالغة في السبق ، كما قال مقيس بن صبابة{[2056]} وقد قتل شخصاً من الصحابة رضوان الله عليهم كان قتل أخاه خطأ ورجع إلى مكة مرتداً .

حللت به وتري وأدركت ثؤرتي *** وكنت إلى الأوثان أول راجع

هذا في جانب الإثبات ، فإذا نفيت ناهياً فقلت : لا تكن أول فاعل لكذا ، فمعناه إنك إن{[2057]} فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك ، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له ، وعبر به تنبيهاً على أنهم لما تركوا اتباع هذا الكتاب [ كانوا-{[2058]} ] لما عندهم من العلم بصحته في غاية اللجاجة فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر عمل من يسابق شخصاً إلى شيء ، أو يكون المعنى أنهم لم يمنعهم من الإيمان به جهل بالنظر ولا عدم إطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشر بل مجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي المستلزم لحسد هذا النبي بعينه ، لأن الحكم على الأعم يستلزم الحكم على الأخص بما هو من أفراد الأعم . فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب الجاهلين به أو{[2059]} الحاسدين له صلى الله عليه وسلم بخصوصه لا لعموم العرب ، فكان أهل الكتاب أول كافر به لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه الذي هو أقبح الوجوه ، فالمعنى لا تكفروا به ، فإنه إن وقع منكم كفر به كان أول كفر ، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر ، {[2060]}ولذا أفرد ولم يقل : كافرين{[2061]} - والله أعلم{[2062]} .

ولما نهاهم عن الكفر بالآيات نهاهم عن الحامل عليه لقوله : { ولا تشتروا } أي تتكلفوا{[2063]} وتلحوا في أن تستبدلوا{[2064]} { بآياتي } أي التي تعلمونها في الأمر باتباع هذا النبي الكريم { ثمناً قليلاً }{[2065]} وهو رياسة قومكم وما تأخذونه من الملوك وغيرهم على حمل الشريعة ، والقلة ما قصر عن الكفاية - قاله الحرالي . { وإياي } أي خاصة { فاتقون } أي اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي ، فالتقوى نتيجة الرهبة كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في آية الرهبة ،


[2051]:إفراد للإيمان بالأمر به والحث عليه لأنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود وتقييد المنزل بأنه مصدق لما معهم من الكتب الإلهية من حيث أنه نازل حسب ما نعت فيها أو مطابق لها في القصص والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أن كل واحدة منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعي فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدم في أيام المتأخر لنزل على وفقه، ولذلك قال عليه السلام:لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي، تنبيه على أن اتباعها لا ينافي الإيمان به بل يوجبه ولذلك عرض بقوله "ولا تكونوا أول كافر به" انتهى ما في البيضاوي.
[2052]:من مد وظ: وفي الأصل: بغيتهم.
[2053]:انظر تأويل معنى أول في البحر المحيط لأبي حيان قد استوفى ما ذكر فيه إلى أن قال: وقيل ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس، قال تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وقال القشيري: لا تسنوا الكفر سنة فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون. قال البيضاوي: فإن قيل: كيف نهوا عن التقدم في الكفر وقد سبقهم مشركوا العرب؟ قلت: المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك: أما أنا فلست بجاهل؛ أولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب أو ممن كفر بما معه، فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه، وأول أفعل لا فعل له، وقيل: أصله أوال من وال فأبدلت همزه وأدغمت – انتهى. وقال القاضي ثناء الله قلت: أو المراد بالأولية الأولية بالذات يعني كونهم سببا لكفر غيرهم، فإن إيمان العلماء والأحبار والرؤساء سبب إيمان غيرهم وكفرهم سبب لكفر غيرهم، فلذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن شر الشرار شرار العلماء وإن خير الخيار خيار العلماء – رواه الدارمي من حديث الأحوص ابن حكيم عن أبيه؛ والمعنى لا تكونوا سببا لكفر أتباعكم فيكون عليكم إثم الأريسين، وأول كافر خبر من ضمير الجمع بتأويل أول فريق.
[2054]:ليست في مد.
[2055]:ليست في مد.
[2056]:العبارة من هنا إلى "وثري" ليست في ظ.
[2057]:ليس في ظ.
[2058]:زيد من مد وظ.
[2059]:في ظ: و.
[2060]:ليست في ظ.
[2061]:ليست في ظ.
[2062]:قال أبو حيان الأندلسي: في النهر الماد من البحر: "ولا تكونوا أول كافر به" لا مفهوم لقوله: أول، فيكون قد أبيح لهم ثانيا أو آخر فمفهوم الصفة غير مراد، وإنما ذكرت الأولية لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر، ونظيره قول الشاعر: من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع. فعاجل لا مفهوم له، وأضيف إلى مفرد وإن كان قبله جمع لأن المفرد إذا كان صفة جاز أن يطابق وأن يفرد وقد جاء ذلك في قوله: وإذا هم طعموا فالأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع أفرد في طاعم وطابق في جياع فقدر الفراء ألأم من طعم، وقدره غيره ألم فريق طاعم، وهنا يتقدر على قول الفراء: أول من كفر، وعلى غيره أول حزب كافر، وبه عائد على المنزل – انتهى كلامه.
[2063]:هكذا في الأصل ومد غير أن في مد "أو" مكان "و" وفي ظ: الشراء قاله الحرالي.
[2064]:هكذا في الأصل ومد غير أن في مد "أو" مكان "و" وفي ظ: الشراء قاله الحرالي.
[2065]:ولا تستبدلوا بالإيمان بها والاتباع لها حظوظ الدنيا فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان: قيل: كان لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا منهم، فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها عليه، وقيل: كانوا يأخذون الرشى فيحرفون الحق ويكتمونه؛ "وإياي فاتقون" بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا. ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادئ لما في الآية الثانية فصلت الرهبة التي هي مقدمة التقوى ولأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم أمرهم بالتقوى الذي هو منتهاه. واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره. والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما، وفيه إشعار بأن استقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق - أنوار التنزيل للبيضاوي 1 / 52.